قراءات و تحليلات

ثورة ديسمبر.. الإنتقال الذي نريد !

إعداد : محمد أبكر موسى

• توطئة:

يُعد “الانتقال السياسي” وممارسته من أهم تطورات الفكر السياسي، والظاهرة الاجتماعية منذ بدء الوعي العلمي تدريجياً بالظاهرة الثقافية وصلتها بمتغيرات اجتماعية واقتصادية ذلك لبروز وعي الإنسان بضرورة ممارسة الحرية، والتنافس السياسي بشكل قانوني عادل على مستوى الفرد والمجتمع والدولة. وقد تدرج هذا المفهوم بالممارسة من أبسط حلقة اجتماع بشري كالعائلة، والعشيرة، والقبيلة والقرية إلى نطاق أوسع حتى ظهور مفهوم “الديمقراطية” مع الفلاسفة الإغريق ثم تحوّل إلى ظاهرة اجتاحت العالم وفق عوامل مختلفة من سياق إلى آخر.

تحاول المقالة من خلال مقاربة وصفيّة تحليليّة تتبع سؤال “ماذا” لعنوان المقالة أعلاه بشكل عام سعياً نحو معالجة هذا التساؤل بتنظير مفاهيمي منهجيّ مُنظم مدعم بسياق الاحتجاج الجماهيري في السودان منذ 19 ديسمبر.

• الانتقال الديمقراطي.. تأطير مفاهيمي:

الانتقال كمصطلح يدل على فرضية وجود مرحلة أو نقطة أو وضعية ما معلومة أو مجهولة يُراد الانطلاق منها صوب أخرى مطلوبة ومرغوب فيها بغية تحقيق أهداف ومصالح معينة. بينما “الديمقراطي” كمنسوب إلى مصطلح “الديمقراطية” في سياق دمجه والانتقال فهو الهدف أو الغاية المرغوب بلوغها من خلال “عملية الانتقال” التي لابد أن تتحقق كي يتم التأكد على حقيقة وجود كلا المفهومين من خلال رؤية مؤشرات وسياقات موضوعية وذاتية ومحددات بعينها. وبالتالي فإن “الانتقال الديمقراطي” مركب لغوي مفاهيمي أولاً قبل الانطلاق نحو تحقق خاصية الممارسة فالفاعلية قبل أن يُشاهد سلوكاً يتم التصرف وفقه في الحياة الخاصة والعامة.

في الوسط الأكاديمي والسياسي، كثيراً ما يتم استخدام مصطلحيّ “الانتقال” و”التحوّل” كمترادفتين لمفهوم واحد يقابله في الإنجليزية كلمة ” Transition”، والتي تعني المرور من حالة أو مكان معين إلى غيره. وفي مرات أخرى يتم التمييز بينهما، وتفريقهما مفاهيمياً وفلسفياً فيصبحان مصطلحان متمايزان في استخدامهما وفق السياق والطرح الفكري المقصود. ولكن هنا يحبذ الباحث استخدامهما كمترادفتين لمعنى واحد محدد يشير إلى مفهوم معين يجسد الحالة المقصودة. واصطلاحياً يقصد به – أي الانتقال الديمقراطي- عملية معقدة ومتدرجة تسعى “لإقامة نظام ديمقراطي، فالانتقال يرتبط بتأسيس القناعة لدى السلطة الحاكمة نتيجة لأوضاع متأزمة وفشلها في ضبط المطالبة القوية بالتغيير، كما لدى عموم الشعب بفضل توعية نخبه ومثقفيه بضرورة إقامة الديمقراطية بديلاً لحكم الغلبة والوصاية لفرد أو لقلة على الشعب، مما يفضي إلى انفتاح سياسي يسمح بتنامي مطالب التغيير التي تدفع السلطة القائمة إلى القبول بتعاقد مجتمعي والاحتكام لشرعية دستور ديمقراطي، ومن هنا تنطلق عملية التحول الديمقراطي التي تتعلق بترسيخ مبادئ الديمقراطية في ثقافة المجتمع وممارسة المؤسسات الرسمية”.

ويُستخدم أيضاً مصطلح “الدمقرطة” Democratization”” للإشارة إلى السعي الجاد على مستويات متفاوتة لإقامة المنظومة الديمقراطية كعملية يمثل الانتقال أحد مراحلها التي يتم الإنهاء فيه وإسقاط المنظومة غير الديمقراطية، وحينها يحدث مشاورات ومحاورات على مستوى القواعد والنُخب بشكل جاد تخلص إلى اتفاق إعلاني أو ضمني على عقد اجتماعي لممارسة الاختيار الحر والإرادة الجماهيرية المستقلة في تشكيل الحكومة ودعمها لتحقيق مطالب التغيير المطلوب، وما تُتأخذ بعدها من إجراءات، وما تُرسم من أهداف استراتيجية في سبيل ترسيخ الديمقراطية كثقافة في المجتمع قبل ممارستها على مستوى الدولة.

وبالتالي يمكن قراءة أن الانتقال الديمقراطي نظرية تفترض عند ممارستها بفاعلية أنه لابد حدوث تحوّل من وضعية سياسية واجتماعية واقتصادية إلى أخرى مرغوبة فيها مجتمعياً وعلى مستوى الدولة وفق سياق جغرافي معين يتم فيه ممارسة تداول السلطة السياسية وبقية السلطات الرمزية والمادية بشكل سلمي وحضاري ومدني متفق عليه ومقبول نسبياً، وحينها فقط يمكن رؤية اتساق فكرة “الديمقراطية” كنظرية وسلوك المجتمع بصورة مباشرة وعملية، وبالتالي يمكن القول عندها أن الجميع استطاع خلق عقد اجتماعي اتفق عليه بإراداته الحُرة وصوته المستقل، واختياراته الناضجة.

• الانتقال الديمقراطي.. التجارب ومحددات قيامه:

ظهرت عملية “الانتقال السياسي” مع اندلاع الثورات الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وواكبت تحولات تُجاوز كبرى جاوزت “البعد السياسي إلى أبعاد فكرية وثقافية، كانت في الواقع نتيجة منطقية لحركة التنوير، وتحرر المجتمعات من استبداد الارستقراطية المتحالفة مع الكنيسة”. وتاريخياً قسم صموئيل هينتغتون ظاهرة التحوّل نحو الديمقراطية إلى ثلاث موجات بدأت الأولى عام (1828_ 1926)، إما الثانية فانطلقت عام (1943_1962)، بينما الثالثة خلال (1974_1990). والتحوّل نحو الديمقراطية في إفريقيا والشرق الأوسط قد اتسمت بالتباطؤ والتردد والإنتكاسة بل والفشل في معظم المحاولات وفرص تحقيقها ذلك لضعف أو عدم توافر عواملها المطلوبة سواء كانت داخلية وخارجيّة، وظروفها الموضوعية والبنيوية التي يمكن أن تقود إلى اندلاع انتفاضة شعبية أو ثورة أو احتجاجات جماهيرية تؤدي إلى تحوّل سياسي يؤسس لنموذج المجتمع الديمقراطي المنشود الناجح.

فالانتقال الديمقراطي فرضية وممارسة تتحقق لاحقاً نتيجة لتفاعلات واجراءات وسياسات معينة تتمظهر في صورة معادلة سياسية ودستورية واقتصادية تقترن بنيوياً بالنسق “السياسي والاجتماعي لتجربة معينة، وهي بصدد تغيير تنظيمها القديم إلى الجديد، فالانتقال يعد بمثابة تطوّر لحركة عضوية، لذا قيل عن الانتقال الديمقراطي بأنه مسلسل يروم توقيف القواعد الأوتوقراطية وتعويضها بأخرى ديمقراطية، فالانتقال مرحلة بين نظامين متباينين ينبنيان على منطقين مختلفين يتأسسان على تفكيك البنيات القائمة وإعادة تركيبهما”.

• حراك المقاومة في السودان.. الانتقال الذي نريد:

في السودان استطاع غضب شعبي تحوّل إلى احتجاجات جماهيرية (ثورة ديسمبر 2018 كما يطلق عليها في العموم) إلى اقتلاع منظومة استبدادية انقلابية عسكرية حكمت البلاد ثلاثون عاماً، سعياً ومطلباً نحو تأسيس وضعية سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة ومغايرة تماماً عن سابقها؛ وضعية دولة ديمقراطية ناجحة راسخة، وذلك بالطبع نتيجة توافر وتزامن جملة عوامل داخلية وخارجيّة، مسببات بنيوية مؤسسيّة، وأخرى فرعية موضوعية، ووفق ظروف وسياقات لها ارهاصاتها ومداخلها وحيثياتها المتداخلة سواء على المستوى الإقليمي والدولي وفق سياساتٍ وخطط، ظروفاً وأوضاع.

ولكن يظل التحدي الأكبر في هذا الحراك الجماهيري الاحتجاجي الأطول والأكثر سلميةً نسبياً من بين سابقيها بالبلاد، مدى قدرتها من أن تنطلق من مرحلة الغضب الشعبي للجماهير في إحداث تغيير ما في العملية السياسية إلى إرادة مجتمعية حقيقية متكاملة تسعي وبشكل جاد وحثيث إلى إحداث ثورة تغيير حقيقي وشامل لكل سياقات الحياة الخاصة والعامة في السودان، مطلباً لبناء نموذج ذلك المجتمع الديمقراطي الحر المسالم المدرك لحقوقه وواجباته ويسهم بفاعلية في تعزيز ذلك العقد الاجتماعي الذي يرتضيه ويرغب في ترسيخه والعيش وفقه. فالأصل في استقرار المجتمعات والعيش بسلام توافر عقد اجتماعي دستوري شامل متفق عليه من قِبل كافة فئات المجتمع المختلفة.

ومن هذا المنطلق ولطالما نحلم كمجتمعات في رقعة السودان بمعايشة ذلك المجتمع والدولة النموذجان في تعزيز مباديء ومنطلقات التعايش الإنساني فيما بينها، فلعل من مداخل تحقيق ذلك هو الأخذ بمنحى تحويل حراك الاحتجاج الجماهيري نحو رغبة خالصة لإحداث ثورة تغيير حقيقي وشامل، لا الاكتفاء بتغيير رؤوس السلطات السياسيّة فقط وفق ظروف وعوامل معينة. فليسعَ الجميع صوب خلق ثورة شاملة تحدث تحولات وتغيرات جذرية وحقيقية في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تستوعب التغيير على مستوى الفرد قبل أن ينتقل نحو التغيير على مستوى العلاقة؛ أي مستوى قبول الآخر والتعايش السلمي والتواصل الثقافي، وما يعقبه من تغيير على مستوى المجتمع وما تحدث من تحولات على دائرة الثقافة العامة، وبالتالي الانتقال تلقائياً نحو التغيير على مستوى الهيكليّ، وما يمكن أن يحدثه من تغيرات على كافة برامج وعمليات الحياة السياسية وتفاعلاتها المرتبطة بكل المستويات السابقة ذلك لأن الفرد هو محور التغيير المطلوب، وهو القائم بتلك العملية الانتقالية والتعزيزية في الوقت ذاته. فلنرغب بالفعل بإعمال الفكر والعمل نحو تأسيس تلك الوضعية التي يصبح فيها المواطنون في ظل المنظومة الديمقراطية أو غيرها من المنظومات يتم قبولها برأي ورؤية الجميع، لا يتمتعون بالحقوق فحسب، بل إن عليهم مسؤولية المشاركة الفعالة والتواصل البنّاء في النظام السياسي الذي يحمي بدوره حقوقهم وحرياتهم.

 

• مصادر وللإستزادة:

1. محمد أبكر موسى، البنية المعرفية لمنهجSNAP وفاعليته في الانتقال الديمقراطي في السودان، 2021، مسابقة الكتابة البحثية والتفكير النقدي النسخة الثانية في السودان.

2. حسين توفيق ابراهيم، الانتقال الديمقراطي: إطار نظري، مركز الجزيرة للدراسات، 2013م.

3. شريف طه، الانتقال الديمقراطي: الأسس والآليات، المعهد المصري للدراسات، 2019.

4. عزمي بشارة، الانتقال الديمقراطي وإشكالياته، المركز العربي للدراسات.

5. حسن الشامي، مقال “ما العلاقة بين الديمقراطية والتحول الديمقراطي؟”، موقع الحوار المتمدن، نشر بتاريخ 2020/10/22.

6. أعمال وكتابات صموئيل هينتغتون.

7. التعريف والمفاهيم العامة للانتقال الديمقراطي بمحرك بحث في ويكيبيديا.

مقالات ذات صلة