مقالات وآراء

التحولات الكُبري في القارة الافريقية ومشروع التحديث !

عبد العزيز التوم ابراهيم / المحامي

لم تكن تخلف القارة الافريقية علي الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني بسبب قصور الانسان الافريقي وعجزه لإدراكه لذاته ولتاريخه كما صوغ له الايدولوجيا الاستعمارية الاروبية … وكانت مشروعات الغزو والسلب والنهب لمقتنيات القارة الافريقية كانت قائمة علي مشروعية إنقاذ الانسان الافريقي من جهالاته وسذاجاته الذي صنعه هو بنفسه ، وطبقا لهذه الايدولوجيا الخلاصية ان الشعوب الافريقية يجب ان يُساقوا الي مصالحهم سوقاً ، وقد راي الانسان الابيض في نفسه الكفاءة لقيادة هذه المهمة التاريخية … ولكن التجربة والمعايشة اليومية اثبتت زيف إيدولوجيا الانوار في القارة الافريقية … وكانت النتيجة المزيد من الانظمة السياسية الفاسدة والدكتاتورية المُزمنة ومزيد من الحروبات الاهلية بدل أنوار الديمقراطية والدولة الحديثة التي رٌوجت لها !
رغم ولوغ الانسان الافريقي في داء الدكتاتورية الميؤوس من شفائها ، الا ان هناك بعض الاشراقات في القارة الإفريقية يُعيد البسمة وينحت التفاؤل والامل من حجر اليأس مما يقتضي القول بان القارة بدأت بتبني خطوات جادة للحاق بركب التحديث وفق مضامينها ومكوناتها الداخلية علي غرار القارة الاروبية والامريكية بمنظوماتها السياسية والقانونية والاقتصادية وبصكوكهما الحقوقية والآليات التنفيذية لها ،حيث نجد ان المحكمة الاروبية لحقوق الانسان والمحكمة الامريكية أكثر فعاليةً وادراكاً من حيث صيانة وحماية حقوق الانسان من الاليات الدولية كالمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية وبقية آليات الامم المتحدة ! وتعود نحاج هذه الاليات الاقليمية لانها ببساطة بُنيت فلسفتها علي الوقائع والحقائق المجتمعية ! .
قد أدرك إفريقيا اهمية استعادة ذاتها المسلوبة ، وبدأ يفكر بطرق مختلفة لخروجه من مرحلة الصمت التي وضعه بها الاستعمار ، حيث يتكلم ويفكر بذاته ، ويعيد النظر في الاوهام التي خلقها فلسفات التاريخ من هيجل الي ما أسماه فوكو ” القدر التاريخي المُتعالي الذي خُص به الغرب” وفي هذا السياق لم تفلح بعد تخريجات مفكروا ومنظروا القارة الافريقية لإيجاد وخلق نُظم سياسية وإقتصادية وقانونية علي غرار الغرب المُتعالي ويُعزي ذلك لبعض الاسباب ! الا ان هناك بعض التحولات الملحوظة علي تأسيس بُنية معرفية تستند علي اساس الوقائع الافريقية والسعي ايضا نحو بناء منظومة سياسية وقانونية تستمد مشروعيتها من ثقافات الشعوب الافريقية مثل الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب وإيجاد آليات تنفيذية طبقا لذلك مثل المفوضية الافريقية لحقوق الانسان والشعوب والمحكمة الافريقية …الا ان هذه الآليات لم تكن فاعلة ومصُونة للحقوق والحريات كما نظيراتها في أمريكا واروبا ولذلك لغياب الحاضنة السياسية والقانونية الحقة !.
ان التحولات الكبري التي مرت بها المجتمعات الاروبية وكانت خاتمة مطافها بناء الدولة الحديثة التي تُعيد المشروعية والسيادة الكاملة للشعب بدل ان كانت خاضعة لمصدر مُفارق للعقل البشري او اي إدعاء كان ..وهذه الدولة الحديثة التي تقوم علي اساس فصل السلطات قد وفرت فضاء مهيئ وقوي للغاية للسلطة القضائية في ممارسة وظيفتها الاساسية لمراقبة أداء السلطة التنفيذية ووزن افعالها وممارستها بما يُمليه مُقتضيات إنفاذ السليم للقانون، في مثل هذه الانظمة يعمل القاضي وفق إرادته الحرة وضميره المهني والاخلاقي دونما اي تدخل او وصاية من جهة تنفيذية وما القرار الذي اصدره القاضي في امريكا الذي يقضي بايقاف أمر صادر من رئيس الجمهورية والذي يمنع بدخول رعايا سبع دول للولايات المتحدة الامريكية يجسد قمة تجليات دولة المؤسسات وسيادة حكم القانون ، وفي هذا المضمار نجد ان هنالك بعض النماذج المُتفتحة في القارة الافريقية كما قرار القاضي الكيني الذي يقضي بايقاف أمر السلطة التنفيذية بإغلاق معسكر ” داداب ” للاجئين قرب الحدود مع الصومال ، وذلك عندما أساءت السلطة التنفيذية إستخدام حقها بالمخالفة للمعاهدات الاقليمية والدولية لحقوق اللاجئين التي إلتزمت بها دولة كينيا ، وقبل اليوم أيضا دعت المحكمة العليا في جنوب افريقيا النيابة العامة لإبتدار إجراءات جنائية في مواجهة المسئولين بهروب الرئيس عمر البشير بمخالفة لأمر المحكمة بمنعه من مغادرة البلاد .
أما علي صعيد الآليات السياسية في القارة الافريقية تُعد تجربة دول غرب إفريقيا من انجع التجارب في سياق ترسيخ قيم الديمقراطية والتداول السلمي للثروة والسلطة ، وتجربة دولة غامبيا تبرهن إمكانية نجاح الآليات السياسية والعسكرية في الاستقرار الامني والسياسي بالقارة الافريقية عبر اخضاع اي دولة عضو يقوض السلم والامن للخيار العسكري للاستسلام كما رئيس غامبيا الاسلاموي “يحي جامي” الذي رفض الاعتراف بنتيجة الانتخابات لصالح” أداما ” وأعلن ببطلان النتيجة ،وعمد علي خلق استشكال وهمي عبر الطعن في نزاهة الانتخابات لدي المحكمة العليا الذي صنعه هو بنفسه ! …وعلي الرغم من جميع المحاولات التي اجريت بواسطة دول غرب افريقيا لإقناعه بترك السلطة الا انه رفض وما كانت من الدول الا ان تلجأ للخيار العسكري ..وحتي لحظة اداء الرئيس المنتخب ” اداما ” القسم لتولي منصب الرئاسة من داخل السفارة الغامبية بال “سنغال ” لم يتنازل ” يحي” عن السلطة ، ولربما يكون الموقف الحكيم للجيش الغامبي من الامتناع للدخول في اي حرب … او تخوفه من أيلولة مصيره كمصير رئيس ساحل العاج “باقبون” الذي قُبض عليه وهو بملابسة الداخلية من الحمام ، قد دعاه للتنازل !
تظل بعض النماذج الإشراقية المذكورة في هذا المقال يطرح بالإلحاح سؤال التغيير الحتمي في القارة الافريقية وصولا لنظم قانونية وسياسية وإقتصادية تنبع من إرادة الشعوب الافريقية ، ولكن التساؤل الجوهري بهذا الصدد هل القيادات الدكتاتورية الذين قزموا هذه القارة وأقعدوها مُدركين بطبيعة هذه التحولات؟!.

مقالات ذات صلة