مقالات وآراء

الحوت : النجم الذي احترق ليضئ الفضاءات المظلمة لشباب السودان

بقلم عثمان نواي

غني الحوت للوطن وغني للحب وغني للوجع والدهشة وغني للألم الذي اعتصره واعتصر جيله بأكمله. في ذكرى موت الحوت اليوم يتراءي في الأفق بصيص امل من بين الهتاف الذي يحاكي صوت محمود بأن ( اكيد قلم الظلم مكسور). ان محمود عبد العزيز كان وسيظل في رحلة حياته وفي لحظة مماته أيقونة الوجع الجميل. الصوت الصادح المتشح بنحيب خفي يتواري خلفه ذلك الخوف والقلق والاختناق تحت ثقل الواقع السياسي الذي كان يكبل الشباب السوداني والشعب بأكمله خاصة في مطلع التسعينات.

كان محمود ليس فقط رمزا للفن والموسيقى والإبداع لكنه كان رمزا لهذا الجيل الباحث عن صوته بين ضجيج المدافع وبرامج في ساحات الفداء وحملات التجنيد الإجباري. ذلك الجيل الذي سرقت منه فرصة الحلم واضطر إلى شراء الآخرة وأن كانت عيناه معلقة بالحور العين و بكل جنون رغباته الدنيوية. ان محمود عبد العزيز لم يعلن لنفسه توجها فلسفيا ولا سياسيا ولم ينظّر كثيرا لما كان يقوم به ، لأنه ببساطة كان غارقا تماما في تجربته الإنسانية الخاصة بصدق مؤلم جعله معبرا بابداعه وصوته عن ذلك الجيل الذي كان يصارع كوابيس الموت والجهاد والقتل والتهجير القسري من الوطن والأرض في كل لحظة وكل حين.

لم تكن أغنيات محمود، ذات الموسيقى الفريدة والبعد الأفريقي المتنوع، والتي صنعت نقلة جديدة في الموسيقى السودانية، لم تكن تلك الاغاني مجرد وسيلة للاستمتاع أو الطرب اللحظي. لقد كانت أغنياته قنوات للتواصل وفرصة للتعبير عن الرغبة في الحب والرقص والحياة التي كانت ممنوعة ومخنوقة تحت نظام المشروع الحضاري والهوس الديني . ومع تحسن وأنفراج الأوضاع وتثبيت الانقاذ لنفسها وتخليها قليلا عن هوس الجهاد والتطرف الديني حتى حاول النظام استغلال محمود ومحبة الشباب له بالترغيب والترهيب. ولكن محمود لم يخفى رغبته واشواقه إلى وطن بروح منفتحة ككل مبدع وفنان . فعندما أتت الفترة الانتقالية بعد نيفاشا لم يتوانى عن الغناء في احتفالات الحركة الشعبية والاقتراب من طرحها. ليس كمفهوم سياسي بالضرورة ولكن كتوجه يتيح مساحات من الحرية ويمنح فرصة للسلام والإبداع في تلك الفترة التي تصاعدت فيها كثير من الأحلام بوطن متعدد يسع الجميع.

يحتفل الحواته اليوم في إستاد الخرطوم بذكرى وفاته الخامسة، حيث أن المكان قد يسع فقط بعض من محبي العملاق و صوت الشباب السوادني. ان الحوت الذي مات في ظروف شابها بعض الغموض وعاش معاناة شخصية مع الوجع الذاتي التي أهلكت جسده كما هذا الوطن وشبابه المكلوم، كان كذلك النجم في ألسماء الذي احترق ليضئ لأجيال كاملة طريقا من الأمل والإبداع والتمرد على القمع والظلامية وإنسداد الآفاق . ان محمود في معاناته وفي نجوميته وحتى في موته يكاد يكون مايكل جاكسون السودان. الصوت الذي احبته الأجيال وستظل تحبه أجيال قادمة وسيظل حيا دوما في أغنياته وبين محبيه.

في ذكرى الحوت نقول كما يردد كل الحواتة

الحوت ما بيموت ولا حيموت

واكيد قلم الظلم مكسور… والتمنيات أن تمر ذكرى الحوت العام القادم وقد انجلي الظلم عن بلادنا وتكسرت كل أقلام الظلم.
nawayosman@gmail.com

مقالات ذات صلة