مقالات وآراء

في تفكيك خطاب الفكر اللاهوتي قــراءة في (تاريخية) الدِّين و(وهـم) السلطة

بقلـــم: محمد أبكر

في بادئ ذي البدء يأوِّل علينا عنوان المقالة أعلاه إرادة المحاولة في إفهام وإستجلاء عن طبيعة علاقة الفرد بالسياسة كضرورة أنطولوجية من وجهة أولى، وبين هذه الأخيرة كعلم وممارسة والفرد ضمن أسوار الدولة من وجهةٍ ثانية، وبين هذه الأخيرة كإطار وضعي ومنتوج اجتماعي والفرد والسلطة بـ(المنظور السياسي) في وضعية علاقة الدولة بالمجتمع الإنساني، وهذا الأخير بمحددات الفعل السياسي وتجليات علاقة الحكومة بالشعب أو المحكومين من وجهةٍ ثالثة؛ في علاقةٍ إشكالية يُراد بها الفض والإستقراء والحوار والتأويل النقدي فضلاً عن المناقشة التحليلية والجدل البنّاء.

ثم في المبتدى يمكن أن نسترأى جزماً أن مشكلة السلطة(بالمفهوم الأنطولوجي) هي (نفوذها السلطوية)، كما إن إشكالية الفرد والمجتمع تكمن في وحدانية الأول وإنسانيته وقهر الثاني وعبوديته، بينما مشكلة الوطن تتجوهر في حاكميته(بالمنظور السياسي)، كما مشكلة الدولة في وضعياته التاريخية، في حين إشكالية السياسة(كممارسة بالمفهوم الإنثروبولوجي) والفرد والمجتمع في ضرورة الأول وحاجات وأهواء الثاني وتجليات تحقيق الثالث، أما مشكلة الدِّين(بالرؤية الكهنوتية والجذرالميثولوجي) كامنة في علاقة المعبد والقصر من جهة، وعلاقة المعبد بالمجتمع من وجهة آخرى.(هذه المشكلة الأخيرة تظل جذر مجموع الإشكاليات بجانب السلطة).. كل ذلك في علاقة تاريخية ثقافية مفاهيمية لها جذورها في نشوء ضرورة التاريخ، وغريزة الوجود، ومطلب الإجتماع، وفطرة الإنسانية.

فدائماً يدفع الإنسان ضربية تجليات سياسته، كما يدفع الشعب ضربية مواطنته، بينما تدفع السلطة ضربية نفوذها، كما تدفع الدولة ضربية علائقها، فضلاً عن يدفع الوطن ضربية إنتماءاته، كما يدفع الدين ضربية معتنقيه، في حين يدفع الكل ضرائب محددات وجوده.

فيبقى فقدان لمواطنته عن وطنه يكمن في نفوذ السلطة السياسية، كما أن فقد هذه السلطة الأخيرة لشرعيتها تتضمر في استبداديتها لمحدد وجودها الذي هو الشعب أو المواطنين، بينما وجودية المواطن/الفرد شريطة عدمية أسوار الدولة فسلط المجتمع، أما السياسة كممارسة اجتماعية تفقد تجليات بقائها بوجود محددات نفوذ ممارسوها، أو بالأحرى منظريها، وعندئد فلا يظل للمواطن حقوق، ولا للوطن إنتماء، ولا للسلطة وجود، ولا للسياسة حياة، ولا للدولة وضعية، ولا للمجتمع بقاء، ولا للفرد حقيقة؛ فتأتي سنن النفي والإثبات، وتتمظهر أشكال الحقيقة والزيف، وتتشكل ألوان العدمية والوجود، وتتضح أسبار الحياة والموت، وتتبين مظاهر الغربة والولاء.

ولكن يبقى أن العودة إلي الحقيقة بالفناء، والوطن بالقدم، والسلطة بالفردانية، وترجع المجتمع بالعدل، والمواطن باللاجغرافيا، والدِّين بالقلب، والوجود بالعقل، والفرد بالإنسانية.!

ثم أنهُ تبقى الحقيقة الأقسى التي لا تشوبها أي شائبة حقيقة آخرى، القضية التي جعلت البشرية منذ خلق التاريخ في داومةٍ من الحيرة والحنون اجتماعياً وابستمولوجياً وثقافياً هي قضية(الدِّين والسلطة وطبيعة مصدرهما وتجليات وجودهما ثم إشكالية العلاقة بينهما) إنتهى. وهي حيرة في حقيقة قسوتها تلك تتجوهر في أنهُ لطالما يتأخذ ضرورتهما(فضلاً عن نزعتهما و مطلبهما) من وجودية ذاتهما قيد الوهم في الواقع الإنساني، أو بإتفاق البشر، إلا أنهما يبقيان في الآوان ذاته أهم ما ينال من كيانه، وأكبر من يقهر عنه وجوده، وأكثر ما يسلبه إنسانيته ويهدر عنه وجوديته..فما مدى قساواة تلك الحقيقة المحيرة عندما نتأكد أنها متوحدة في مسمى(السلطة الدينية)، أو في مفهوم(الحكم اللاهوتي/الكهنوتي)، أو قُل (الدِّين السلطوي)، أو في مُركّب يدعى(الحاكمية الإلهية).

عندما يقول (كيركجارد):” ليس المهم من نؤمن به..المهم هو الكيفية التي نؤمن بها”، فإن جميع أشكال عبودية الإيمانيات، أو ألوان القناعات، أو تجليات الميتافيزيقيات قد تسقط إلي المدارك صفر السفلى، وتذهب مجموع محددات استبداد العقل، بل الإرادة الإنسانية إلي حيث لا عودة لا وجود. أما حينما يقول على بن أبي طالب:” لا تكن عبد غيرك، وقد خلقك الله حراً”، فإن كافة المقولات والنصوص التي تؤسس لفكرة(السلطة) قد تسقط إلي العدم وتبقى قيد الوهم والمخيال والعدمية. وفي الوقت ذاته تتجلى حقيقة أن(الحرية) في كل وأي شيء حق وجودي تكويني للإنسان، أي أن هذا الحق كامن في صلب ماهيته بالأصل الخلقي. بيد أنهُ يبقى أن فكرة(النظام) حقيقة آخرى لها سياقها في هذه المقاربة؛ إلا أنه يبقى المحدد الأساس لحقيقة تحقيق فكرة(الديمقراطية) في وضعية الدولة والمجتمع البشري؛ وهو فكرة لضبط الواجبات، وتأمين الحقوق في أطار المواطنة بين أسوار الدولة. ولذلك يظل فكرة السلطة موضوع تاريخي وثقافي واجتماعي يرتبط بمفاهيم تحقيق أشتراطات مفهوم(المجتمع)، وضمان تأكيد مقولات تسهيل حرية الناس قيد ما يرغبون، وتنظيم شؤونهم وفق ما يريدون، وضبط ما يحتاجون طبقاً للإرادتهم الحرة، وتبعاً لإستقلالتهم الكاملة، وإختياراتهم الخالصة الحرية والثقة والتأكيد.

ولما نفهمُ أن (السلطة) مفهوم يجسد مقولات العبودية، وأن (السياسة) فكرة تمثل تجليات التسلط وحالك/محكوم، وأن (الدولة) موضوع يحوي محددات فرز الهويات، وتفريق الإثنيات، فإن رؤية/معايشة ممارسة فكرة(السلطة الدينية)، أو أي مسمى مركب من(الدِّين والسلطة) تبقى الطامة الاجتماعية الكبرى، وتظل الكارثة الوجودية السياسية القصوى، وتبقى حقيقة الوهم الأكبر في الوجودي الإنساني.

إن مصطلح(الحاكمية الإلهية) – مع ملاحظة تضميره لمقولات الإكراه والتسلط وترميزات الإستبداد والخنوع – لهي أنكى الأوهام المتخيلة في اللاشعور الديني للكهنة، الأمر الذي يؤدي إلي تحقيق وهمية فكرة(السلطة بالمنظور السياسي)، وتأكيد(سلطة الدِّين بالمفهوم الأنطولوجي) كموضوع قديسي مطلق سماوي، وتعزيز مقولة(الإسلام دين ودولة)، وذلك لأن (الإله) – مع إفتراض وجوده إبستمولوجياً- ليس مشكلته في الإيمان به أو الخضوع لنصوصه، أو الركوع إمامهُ مجازياً، أو الحجود به ونفي وجوده، إنما مقصده النهائي هو ضمان إقامة العدل والحرية بين موجودات حقيقة وجوده، وغايته المطلق لهو تأكيد مدى حضور الإرادة الحرة، والخيار المستقل عن تجليات حياتيه عند واقعهم الوجودي. فالدِّين إذاً مشكلة للإنسان وعنه، وليس وكلا مشكلة مُوجده؛ فالمُوجد لهو غني وسامد وعالم وكافي عن موجوداته فكيف يُعقل أن يكون الإيمان به أو نفيهِ إشكالاً له وعليه؟

إذاً تكمن فكرة حقيقة وجود مقولة(سلطة الدِّين أو العكس) من زيفيتها ووهميتها في المتخيل الكهنوتي لمحددات الإنانية المكرهة بجانب تماهيها في(نفوذ السلطة السياسية)، وتعزيزات أو تأكيدات أوهام (نخبة) إنتهازيِّ الثقافة والعلم والآداب، وليست في كنه الأمر لها وجود أصيل أو أنطولوجي في ضرورة الوجود الإنساني. ثم أن مصطلح(الإرادة الإلهية) قد تسقط بمجرد أن نفهمُ أن تلك الإرادة تكمن ذات(الإله بكونه كاملاً عن الكل)، بذلك فهو ليس حوجة إطلاقاً إلي إمتلاء أوالنيابة عنه لتحقيق حقيقة وجوده، فضلاً عن تلك الإرادة قد لا يحققها مجرد عدة نصوص، أو كم من الرُسل، أو عدد من أصفياء البشر هم عن الرعناء أنبياءًا، فوق أن حتى سماوية تلك الأديان قد تذهب قاع العدمية في حالة التأكد أنها قد تحولت جميعها بالتأويل والإستقراء الأبستمولوجي والإقتراب العلمي إلي أديان أرضية وبالتالي تتساوى في التصنيف أرضياً مع بقية الأديان كالبوذية والتاوية والهندوسية؛ لأنها في حقيقة الأمر” كلها تتساوى في الواقع من ناحية كون أحكامها بشيرية لا إلهية، كونها لم تبق شيئاً لأنبيائها في فكرها وتشريعاتها وأحكامها”(1)، وكونها يتم تأويلها وفق محددات تمايز الأزمنة، وتطورات تغاير العصور، وإختلاف حاجات الأجيال، وتباين مصالح الإنسان.

وهكذا نلاحظ بالتأويل والإستقراء الحفري معرفياً أن فكرة(السلطة) لا تخرج عن كونها مفهوم تاريخي اجتماعي وذلك كما يقول الجبران:” يعود إلي بديهية تاريخية وجودية هي؛ أن التاريخ لم يرى سلطة عادلة إطلاقاً..وما اقترب منها إلي العدل هنا أو هناك؛ فهي فقط تلك التي ابتعدت عن عنوان السلطة وصلاحيتها..وهكذا انثربولوجيا مفهوم السلطة، لا يحمل إلا عنوان المِلَك التاريخي المعبر بتسميته ودلالتها على مُلك حرية الآخرين وحياتهم ووجودهم..هذا ما رسخ في وعي البشرية كحق طبيعي يرتبط بالقانون نفسه”(2). بينما يبقى فكرة(الدِّين) هو أيضاً ينحصر حقيقته في مفهومهُ الإنساني، وصفتهُ التاريخية الثقافية الإيديولوجيا؛ فهو منتوج تاريخي إنساني(بالمنظور الإبستمولوجي وبالتأويل المنهجي)؛ لأنهُ مشكلة الإنسان وله، وليس مشكلة ووجود (الله) من نفيه والحجود به؛ أُرسل – في أعلى تقدير قيمي- إلي البشر لأجل النطق عنه، والتأويل عليه، والإفادة به، وليس القراءة له، والعمل إليه، والسكون بنصوصيته.

أما مقولة(الدولة بإقترانها بالشعب) تظل وضعية تاريخية، وحالة وظيفية بإمتياز ونظن في هذا الجميع على إتفاق؛ لأن ذلك تحقيق وجوديته شريطة الممارسة السياسية، ونزعة الاجتماع، وأبنية الثقافة من خلال مقولات تأكيد مفهوم (المواطنة والإنتماء والولاء السياسي)؛ فالشعب لهو أساس محدد خلقها، وأصل بنائها، وجوهر حقيقته، ودونه تبقى قيد العدم.

إن الإشكالية الأعصى في قضية(الدِّين والسلطة)، وفرص تحقيق محدداتها، تبقى في مقولة(سلطة رجال الدِّين)، وليس فحسب في موضوع(الحاكمية الإلهية)، أو فكرة(السلطة الدينية)؛ أي في نفوذ سلطة(رجال الأيديولوجية الدينية)، وما يتمظهر عنه نزعة سيكولوجية السلطة بستار النيابية اللاهوتية، وبراغماتية أوهام المتلاعبون بالعقول بتعبير شيللر هربرت.

ثم هكذا نخلص إلي أنه ينعدم مفهوم(السلطة) بالمنظور الأنطولوجي في أصالة كيان الإنسان، فقط أنهُ ينحسر في وضعية تاريخية مفاهيمية ثقافية؛ بيد أنه ثمة وجود لـ” نظام ضابط يوكل إليه، أي هنالك مجموعة من الشعب مكلفة بنظام الشعب، لا تملك أي سلطة بمفهومها التاريخي..وبالتالي لا وجود لحاكمية دينية ولا حاكمية علمانية”(3). في حين أن مصطلح(الدولة) ليس أكثر في حقيقة خلقه من وجود(شعب/مواطن) له كل أختيارات تطويع بناءات تحقيقه واقعاً ضمن مفهوم(المواطنة)، في إطار مطلب المجتمع الإنساني. أما مقولة(الدِّين) قد تتقوقع فقط في تموضعه التاريخي تأويلياً، وتمظهره اللغوي الثقافي إبستمولوجياً. بينما نعثر على حقيقة مفهوم(الإرادة الإلهية) في المخيال الكهنوتي، و(الحاكمية الدينية) في الميثولوجيا اللاهوتي، و(الإسلام: دين ودولة) في الأطر السجالية، والجدالات النخبوية للمخيلة المثقفة.

إذاً فالدولة تموضع وظيفي اجتماعي سياسي، ويبقى الشعب خالقها ومُوجد شرعيتها الواقعية ضمن مقولات المواطنة، بينما السلطة مفهوم تاريخي مفاهيمي، كما الدين؛ فإشكالية قضية(الدِّين والسلطة) تتجوهر في مقولات التاريخية وصراعات المفاهيم، وأنساق أضداد الفرد والجماعة؛ فالأول مشكلة الإنسان وليس(الله)، والثاني مشكلة التاريخ وليس(الوجود).

فالدين لحرية الإنسان وليس لعبودية الكهنوت للإنسان، والدولة لمصالح المواطن وليس لممارسة السلطة عليه، وحقيقة وجود الإنسان في إرادته بلا قيد أو أكراه، وكنه الوجود في مقولة(المفهوم والتأويل والإفهام).إنتهى.

(1) أنظر عبد الرزاق الجبران، جمهورية النبي، دار إنسان، بيروت، 2015م، ص121.

(2) مرجع سابق، ص137.

(3) مرجع سابق، ص 140.

مقالات ذات صلة