الجاك محمود أحمد الجاك
ما أن دفعت الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال بورقة المبادئ فوق الدستورية في بحر الأسبوع الماضي والتي حركت الساكن في الساحة السياسية السودانية، بل من المؤكد أنها ستحدث حراكا سياسيا وفكريا منقطع النظير، إلا وبرز رسل الشئوم والأنبياء الكذبة كعهدهم ليدعوا أن الحركة الشعبية قد سرقت فكرتهم كما جاء علي لسان المدعو تاج السر حسين في كلام له منشور في صفحة أحد أبواق عرمان. إنه إدعاء لا يقف علي ساق، وإخراج بالغ السخف لأسطوانة مشروخة ومعلومة القصد……إنه إدعاء لا يعبر إلا عن إستعلاء وعنصرية بغيضة. غير أن هذا الإدعاء الأجوف يعكس مدي الجهل المركب لهؤلاء الأنبياء الكذبة. فقد فات عليهم أن المبادئ فوق الدستورية والتي يدعون ملكيتها الفكرية ليست وليدة اليوم، وإنما هي فكرة موجودة منذ مئات السنين. شأنها في ذلك شأن العلمانية والديمقراطية والعقد الإجتماعي. فالحركة الشعبية عندما تؤمن بها وتتبناها وتقدم علي طرحها وإسقاطها علي واقع السودان، لا تدعي إختراعها أو ملكيتها، وإنما تأخذ بواحدة من منجزات الفكر والحضارة الإنسانية الخلاقة لمعالجة المشكلة السودانية. ولذلك فإن الحركة الشعبية ليست بحاجة لإضاعة الوقت في الرد على مثل هذه الترهات.
كما ذكرت فإن فكرة المبادئ فوق الدستورية ليست جديدة، فهناك العديد من الدول التي سنت مجموعة من المبادئ فوق الدستورية في سياق تحولاتها الديمقراطية وثورتها ضد الأنظمة القمعية بدءا من إنجلترا (وثيقة الماجنا كارتا) وفرنسا (إعلان حقوق الإنسان والمواطن). وعلي صعيد قارتنا السمراء، فهناك تجربة حية هي تجربة دولة جنوب إفريقيا والتي مكنتها من تصفية نظام الفصل العنصري(Apartheid). فبعد 27 سنة من الإعتقال، وتحديدا في 11 فبراير 1990 تم إطلاق سراح الزعيم المناضل نيلسون مانديلا الذي كان يقبع في معتقله بسجن روبين آيلاند منذ العام 1962 في إطار قبول نظام الفصل العنصري بضرورة التوصل لحل تصالحي يلغي النظام العنصري الذي صار مرفوضا داخليا وعالميا.
وفي أعقاب إطلاق سراح مانديلا بدأت مفاوضات مضنية بين النظام العنصري القائم وقتها برئاسة فريدريك وليام دي كلارك وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي بقيادة الزعيم نيلسون مانديلا لتستمر تلك المفاوضات المضنية حتي العام 1994 عندما صدر الدستور الإنتقالي الذي تم بموجبه إجراء إنتخابات أسفرت عن فوز المؤتمر الوطني بأغلبية مقاعد البرلمان (الجمعية التأسيسية)، وتولي مانديلا رئاسة الجمهورية، فيما أصبح دي كلارك النائب الأول، وثابو أمبيكي نائبا ثانيا. فقد تبنت جنوب إفريقيا(34) مبدأ فوق الدستور تقرر أن يتضمنها الدستور وتم إلزام الجمعية التأسيسية بها عن طريق إخضاع مسودة الدستور لمراجعة المحكمة الدستورية. تتعلق بعض تلك المبادئ بإقتسام السلطة بين المستوي القومي وما دونه، ومبادئ أخري تتعلق بحقوق الإنسان. كما توجد مبادئ تعني بإجراءات تعديل الدستور، فيما تضمنت مبادئ الفصل بين السلطات وإستقلال القضاء وخضوع الحكومة للمحاسبة، بالإضافة إلي المبادئ التي تجعل ذلك ممكنا عن طريق حرية تلقي المعلومات. ووضع الدستور الإنتقالي آلية للتأكد من أن المبادئ فوق الدستورية قد تم تضمينها في مسودة الدستور الدائم وإجازتها من المحكمة الدستورية. هذه هي أهم ملامح تجربة جنوب إفريقيا التي طوت نظام الفصل العنصري، وأنهت 300 عام من حكم الأقلية البيضاء علي الرغم من أن هنالك قضايا جوهرية مثل قضايا الأرض والإقتصاد الذي ما يزال البيض يسيطرون على مفاصله وهي قضايا لم تعالجها تلك التجربة بما في ذلك الكوديسا حيث فشلت لجنة الحقيقة والمصالحة في التحقيق في مظالم الأبارتايد ولم تفعل غير منح العفو للبيض المسئولين عن تلك المظالم بعد أن أبدوا الندم علي أفعالهم. وتظل قضايا الأرض والإقتصاد قضايا جوهرية وكفيلة بأن تفجر الأوضاع في جنوب إفريقيا مرة أخرى.
عالميا، أود الإستشهاد بتجربتين شاخصتين للعيان وهما ألمانيا الولايات المتحدة الأمريكية. وفيما يتعلق بتجربة ألمانيا، وبالعودة الى الدستور الألماني 1949 المعدل 2014 فقد حددت المادة (79) من دستور جمهورية ألمانيا الإتحادية أحكاما بعينها لا يجوز تعديلها أو إلغاؤها، ومنها الشكل الإتحادي للدولة . وتمنع ذات المادة المساس بالمادة (20) من الدستور، وهي مادة متعلقة بطبيعة الدولة وتقرأ: (جمهورية ألمانيا الإتحادية دولة إتحادية ديمقراطية وإجتماعية). فيما تقرأ الفقرة الرابعة من المادة (20): (يحق لكافة المواطنين مقاومة كل من يحاول القضاء على هذا النظام إذا لم يمكن منعه بوسائل أخري). هكذا قرر الشعب الألماني أن يطوي مرة واحدة، والي الأبد صفحات مريرة من تجربة الحكم النازي وودع السياسات التي قسمت ألمانيا ما بين شرقية وغربية.
وبخصوص التجربة الأمريكية، يعتبر دستور الولايات المتحدة الأمريكية أقدم دستور مكتوب منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة بعد معاهدة وستفاليا Westphalia في العام 1648 والتي أنهت الحروبات في أوربا. فقد لعب جيمس ماديسون الإبن (الملقب بأبو الدستور) مؤسس الحزب الجمهوري الديمقراطي، ورابع رئيس للولايات المتحدة الأمريكية دورا مهما بالتعاون مع ألكسندر هاملتون في وضع الدستور الأمريكي (1809 – 1817). تحدد التعديلات العشرة الأولي للدستور الأمريكي الحقوق والإمتيازات والحريات. وتتألف وثيقة الحقوق Bill of Rights في دستور الولايات المتحدة من عشرة بنود تشكل العمود الفقري للدستور وأساس المبادئ فوق الدستورية، ويحظر علي مجلس الكونغرس تشريع أي قانون مخالف لوثيقة الحقوق بوصفها حقوق لا يمكن إنتزاعها Inalienable rights وبإعتبار أن الحقوق الأساسية حقوق طبيعية لا يمكن إخضاعها لرأي وتصويت الأغلبية. وجاء علي لسان أحد فقهاء القانون الدستوري في الولايات المتحدة الأمريكية أن (الناس الذين أسسوا الولايات المتحدة الأمريكية هم أناس أحرار فكريا فروا من جحيم الطغيان الفكري لملوك وقساوسة أوربا في العصور الوسطي، فهل يمكن أن يتركوا لأجيال المستقبل المجال لكي ينحرفوا نحو الطغيان؟ لقد فتح المشروعون الأوائل بابا للحرية لم ولا، ولن يستطيع المشرعون اللاحقون سده بأي شكل من الأشكال). كما يقول أحد الحقوقيين البارزين في أمريكا: (إن كل تراثنا الدستوري يتمحور حول فكرة عدم إعطاء الدولة أي قوة للسيطرة علي عقل وضمير الفرد). هكذا طوت أمريكا هي الأخري عهودا من العبودية والعنصرية وإضطهاد الزنوج لتصبح قوة خارقة Superpower وأعظم دولة في العالم. ومن الملاحظ عند الإطلاع على تجارب غالبية الدول العظمى في العالم، نجدها قد تبنت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر 1948 ضمن المبادئ فوق الدستورية لأنه يمثل تتويجا لنضالات البشرية خلال مئات السنين، وتكريما لملايين الضحايا الذين قدموا أرواحهم ثمنا لهذه المبادئ منذ أن أعلنت الثورة الفرنسية ذلك. فهذا بالضبط ما نحتاجه في السودان إذا أخذنا في الإعتبار أن هنالك أكثر من ثلاثة مليون مواطن سوداني تم قتلهم في هذا البلد منذ العام 1955 إما علي أساس عرقي أو ديني، وأن هناك أكثر من ثمانية مليون لاجئ سوداني شردتهم الحروب وإفرازاتها وكل ذلك بسبب إصرار النخب الحاكمة علي إتباع السياسات الخاطئة التي ولدت المزيد من الحروب والأزمات المتفاقمة.
بالنظر إلى واقع السودان المأزوم والذي بات مفتوحا علي كل الإحتمالات في ظل الخلافات الكبيرة والإنقسامات الحادة بين القوي السياسية في البلاد والتي تعكس عمق الأزمة السودانية، وتصعب من مهمة التوصل إلى تسوية سياسية، في خضم هذا الواقع المعقد تدفع الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال بالمبادئ فوق الدستورية كمخرج يمكن أن يمهد الطريق أمام تحقيق سلام عادل ومستدام وبناء مشروع وطني حقيقي يفضي الي تحقيق الإستقرار الدستوري في السودان، ويحافظ علي وحدة ما تبقي من تراب الوطن. لكن بالنظر الي واقع السودان الأكثر تعقيدا كان لزاما أن تراعي الوصفة العلاجية للحالة السودانية خصوص وإختلاف الوضع في السودان بحيث تتأسس هذه الوصفة العلاجية علي قاعدة وعبارة صنع خصيصا للسودان Specifically made for Sudan. وتتلخص أهداف المبادئ فوق الدستورية التي تطرحها الحركة الشعبية في الآتي:
١. إنهاء مشروعية العنف والغلبة، وتبني مشروعية العقد الإجتماعي.
٢. تفادي تكرار السياسات الفاشلة التي ولدت الحروب والأزمات وخلفت مرارات أدت الي تقسيم السودان وما زالت تهدد وحدة ما تبقي منه.
٣. حماية حقوق الإنسان، وصون حقوق الأقليات.
٤. حماية طبيعة الدولة بإقرار مبدأ علمانية الدولة. إذ يتوجب الخروج من وحل الفكر الديني للقبول بفكرة العيش المشترك بين جميع مكونات السودان. الشاهد أن أكثر ما يهدد وحدة الدولة السودانية هو إستبداد آيديولوجيا إنتماءات ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، ولذلك فإن السودانيين بحاجة ماسة للتوافق علي مشروع علمانية، أي دولة تقف علي مسافة واحدة من جميع الأديان بحيث يرتقي هذا المشروع الي أن يكون أساس لعقد إجتماعي بين السلطة السياسية ومجموع مكونات المجتمع السوداني. وهذا يحتم إعمال مبدأ الفصل التام بين الدين والدولة حتي نتمكن من بناء دولة قابلة للحياة وقادرة علي اللحاق بركب الحضارة الإنسانية.
٥. تفكيك المركزية القابضة، وتبني نظام حكم لامركزي في السودان.
٦. تحقيق مبدأ سيادة حكم القانون.
٧. إستدامة الديمقراطية، وتحقيق مبدأ التداول السلمي للسلطة.
٨. إسباغ الحماية الموضوعية علي بعض أحكام الدستور في مواجهة التعديلات الدستورية بهدف منع طغيان وإستبداد الأغلبية.
وختاما، تظل مسئولية الحركة الشعبية كقوة رئيسية كبيرة في إبتدار وقيادة حملة تنويرية وتثقيفية بهدف تشكيل وبلورة الوعي الجمعي بأهمية المبادئ فوق الدستورية وضرورة تبنيها. نأمل أن تقف قوي التغيير الحية في الجانب الصحيح من التاريخ بالتضامن مع الحركة الشعبية في معركة المبادئ فوق الدستورية، وفي مقدمتها الأحزاب والتنظيمات العلمانية، قوي الإستنارة، قوي الهامش، لجان المقاومة، النساء، الشباب، الطلاب وجميع المتضررين من الأوضاع القائمة في السودان ولهم مصلحة حقيقية في التغيير الجذري. فقد آن الأوان للقيام بعملية فرز وإصطفاف سياسي جديد لإنقاذ بلدنا السودان، فهل نمتلك الإرادة لإنجاز المساومة التاريخية وبناء مشروع وطني حقيقي، أم تري سيسير البعض علي هدي سياسات ومخازي الإمام التسعيني غير الصادق؟!
وسلاااااااام يااااااااوطن!!
