مقالات وآراء

والله ياخوانا كدة خلونا نتكلم بصراحة

هذه رسالة لكل شخص علماني لبرالي تقدمي مؤمن صابر محتسب ، يساري يميني لايهم ، إلى كل من يشعر أنه يؤذن في مالطة منذ عشرات السنين أو بضعة سنين حسب عمرك البيلوجي والعلماني ، إلى من لا يحب أن يؤذن لا في مالطة ولاغيرها ولكنه فقط يشعر أنه غريب في هذا الوطن ، مع إعتذارنا لمالطة كوطن محترم ضرب به المسلمون هذا المثل لأنهم كانوا ولا زالوا يعتقدون أن الآذان يجب أن يجاب في كل مكان لأن كل مكان هو ملك لهم وأن كل مكان حتماً سيكون لهم .. ليكون الحكم لله.
وقبل كل شيء هناك سؤال ربما يدور في خواطر العديد منكم ، هل نحن علمانيون؟ أم علمانيون عشائريون؟ بما أن السودان عبارة عن تركيبة عشائرية هل نحن مجرد تنوع فكري داخل عشائرنا؟ أي أننا عبارة عن أشخاص علمانيون كل داخل عشيرته يتبعون لهذه العشائر أولاً ثم بعد ذلك في ركن قصي تأتي العلمانية التي قد تكون مجرد مقاومة لعدم الرضا عن أوضاع أو طريقة الحياة داخل هذه العشيرة ومثيلاتها في تحالف المصالح الحاكم أو المقاوم وأن الأمر ليس سوى محاولة توسيع الخيارات الحياتية في داخل المكون العشائري للمجتمع مع إبقاء الشبكة كما هي مع جعلها أكثر تسامحاً لأفراد هذا اللإنتماء العشائري الذين يتخذون خيارات لا تطابق معايير العشيرة.
فرز الكيمان:
لماذا لم ينجح العلمانيون السودانيون رغم كل هذه السنين الطويلة من الدولة الحديثة في صنع جماعة ضغط موحدة قادرة على التأثير في المجتمع ومسار الدولة حتى ولو على مستوى متواضع كما يحدث في محيطنا الأفريقي وحتى العربي والدول الصاعدة من براثن العالم الثالث في آسيا والتي أكملت الصعود أو شارفت؟ وسوف لن نركن إلى المبالغة ونقول لماذا لم نستطع تقفي أثر النموذج الأمريكي والذي تطور من الحالة المكارثية ونظام الفصل العنصري إلى مايسمى الآن في دهاليز جماعات الضغط والسياسة الأمريكية بالتقدميين العلمانيين – Secular progressives – والذين من شدة ضغطهم على السياسة والمجتمع الأمريكي كانت النتيجة فوز ترامب في الإنتخابات السابقة كمقاومة غير مسبوقة لهذه الجماعة التي كادت أن تبتلع وتسيطر على كل شيء والتي ساهمت بقوة في إيصال أول رئيس أسود لسدة الحكم وكان هدفها التالي إيصال أول إمرأة للرئاسة وقامت بتغييرات إجتماعية كبيرة وحتى بعد فوز ترامب حولت تجربته في الحكم إلى جحيم غير مسبوق بالنسبة لرئيس أمريكي.
لماذا حتى الآن لم ننجح في فرز الكيمان على أسس وتوجهات فكرية؟ فنحن مجرد علمانيين شماليين وغرابة ونوبة وجنوبيين .. إلخ. وكل منا متمترس في عشيرته أو منطقته وينظر للعلماني خارج منظومته العشائرية المناطقية بتوجس وشك ويظن به الظنون بإعتباره ليس سوى مخلب قط لعشيرة ومنطقة أخرى يريد أن ينتقص من مصالحه التاريخية المكتسبة ووضعه وجماعته أسفل الهرم الإجتماعي بتوظيف دعاوى ثقافية علمانية ليعلوا هو وجماعته ، مع عجز تام إلى أن ينظروا إلى أنفسهم كجماعة ذات مصالح مشتركة بعيدة عن المصالح العشائرية والمناطقية.
بالطبع أنا أتحدث عن العلمانيين الحقيقيين وليس الذين يتبعون الأمر كموضة تسقط عند أول إختبار لتكشف عن سلفية ممتازة من الطراز الأول كان صاحبها يخجل منها فقط ولهذا غلفها بلبوس العلمانية ليكون مقبولاً في أوساط وسياقات معينة.
إسمحوا لي وبكل صفاقة في ماتبقى من هذا المكتوب أن أضع نفسي كحالة – Case – يتم عكس وجهة نظرها في قضية تعتبر مرفوضة من أغلب العلمانيين الذين لاينتمون إلى مناطق النزاعات.
تقرير المصير:
من وجهة نظري فإن هناك خلل فكري ومفاهيمي في التعاطي مع تقرير المصير (بأنواعه ، حكم ذاتي ، إنفصال ، كونفدرالية أو غيره) بتحويل تقرير المصير إلى تقرير مصير عرقي بدلاً عن تقرير مصير ذو توجهات ثقافية وفكرية ، وبثقافية هنا لانعني الرقص والغناء واللغات وما شابه ، أعرف أنكم مثقفون ولستم محتاجون لمن يعرفكم على معنى الثقافة في سياقنا هذا ولكن صدقوني هناك من هم على أعلى المستويات في تنظيماتنا هذه لايعرفون وقد ظهر هذا جلياً بطريقة فضائحية تثير الكثير من علامات الإستفهام ، هذا غير التساؤل عن كيف يدير المرء صراعاً فكرياً وإعلامياً ضد شيء لايفهمه ولايعرفه كأنك تقاتل الدُمبُعلو (ود أم بعلو همباتي تحور إلى كائن أسطوري في الحكاوي الشعبية السودانية) دون أن تكلف نفسك عناء السؤال وتقصي الحقائق عنه فربما يتضح أنه سخلة وربما تكون أنت الدُمبُعلو ، ودعونا نبسط الأمور بأن نقول بأن كل من لن يستطيع أو لايطيق العيش تحت ظل ثقافة عربية إسلامية – وليس مع عرب ومسلمين – ولا تطابق توجهاته الفكرية والحياتية هذه الثقافة العتيقة فليقرر مصيره ، من هذا المنطلق فإن الدساتير التي تحكم الكيانات الجديدة أيٍ كان شكلها يجب أن تكون دساتير علمانية لبرالية صريحة ومن هذا المنطلق فمن طابق فكره أو أقر بقبوله بهذه الدساتير فعليه التوجه للعيش في هذه الكيانات الجديدة بغض النظر عن عرقيته أو أصوله المناطقية ، أما من لم يوافقه الأمر فعليه البقاء في المركز أو التوجه من الهوامش إلى المركز حتى لو كان عرقياً من مناطق الهامش – يعني من الآخر كدة (يا نوبة ويا فور ويا زغاوة على سبيل المثال لا الحصر) البطالبوا بي تقرير مصير وفي رؤوسكم في أوهام إنو نطبق حكم إسلامي أو أي مشاريع مرتكزة على عقائديات دينية بطريقة صحيحة هناك (في الهامش) لأنو في إعتقادكم دي الحاجة الصاح بس الناس ديل (ناس الإنقاذ والصادق ومن لف لفهم وكدة) ما طبقوها صاح هنا (في المركز) ، إنت ما تلزمناش والحرب حتدور ضدك أشرس من الكانت مع المركز لأنك إنت حتكون متعصب وجاهل وتقول دي أرضي يحموني كمان أطبق فيها الأنا عايزو! وإيه رايك كمان البندقية دي بنشيلها ضدك أنا ومعاي الإنت بتسميهو جلابي وعربي جاي من المركز والأقر مسبقاً بالدستور المذكور عن قناعة حتى يثبت الإيمان بإنسانية لاتحكمها عرقيات وتفرقة دينية في قلبك وطز فيك – هذا الكلام لايعني أنه لامكان لأنصار السنة في جبال النوبة مثلاً إذا حدث تقرير مصير ، بل له أن يفعل ويعتقد ويمارس كل ما يريد لأقصى حد دون أن يحاول أن يفرض أسلوب حياته على الآخرين أو يحشره في الدولة ، وأظن أنه من المعروف أن معظم المتدينين الذين قابلتهم في حياتك وسبق أن عاشوا في أوربا خصوصاً قد قالوا لك أنهم قد عبدوا الله هناك كما لم يعبدوه من قبل.
هل هناك تناقض في أن أدعو بدعوة كهذه وأنا من جبال النوبة مثلاً ، فقد تقول لي أنك عندما تدعو لتقرير المصير فهذه دعوة عرقية عشائرية في الأساس ، وهذا صحيح ، ولكن الزاوية التي ترى منها أنت الموضوع خاطئة ، سأضرب مثلاً حقيقياً بسيطاً بتجربة شخصية فأنا لي صديق عزيز ينتمي عرقياً تماماً إلى المركز وهو شيوعي حقيقي (بحقيقي لا أعني ناس فلفل شعرك والجنز المهتريء والسكر والحب في الجامعة وتحدي الأسرة والسلطات وبعداك بعد عمرٍ طويل العرجة لمراحا) ونحن فكرياً على إختلاف كبير فمن تكرم بقراءة مقالاتي السابقة قد يفهم بأني لا أتفق مع الفكر الشيوعي ولكننا توقفنا منذ زمن طويل عن خوض النقاشات في هذه المسائل فقد إتضح لنا بما لا يدع مجال للشك أن هذه نقاشات صفوة ، والمجتمع ليس معنياً بها من قريب أو بعيد فلقد وصل المجتمع مرحلة أقرب إلى مرحلة أكل العلف أما مثقفينا فقد وصلوا شأواً بعيداً في النقاشات الفكرية بزوا بها أقرانهم في الغرب ، بعد أن تزوج صديقي هذا وأصبح له من البنين والبنات أصبح جل نقاشنا مرتكزاً على كيف تنجوا ذريته من هذا المجتمع المأزوم ، إن الشكاوى والقضايا التي يطرحها والتي أصبحت شخصية بالنسبة له الآن وليست ترفاً فكرياً عند نقاشاتنا والأسئلة المحرجة التي تحتاج لإجابات عملية ليقوم بتطبيقها دون أن يخرق معايير هذا المجتمع ، الضيق الشديد الذي يبدو عليه وهو يدخن سيجارة تلو الأخرى وكأنه في منافسة للتدخين بينما أنا أجلس هادئاً أستمع إليه ، جعلتني أعتقد أن معاناته لا تقل إن لم تكن تفوق معاناتي أنا الشخصية في هذا البلد كشخص من الهامش إنطبقت عليه كل جرائر المركز التي يمكن أن يوجهها لشخص من الهامش في سياقي الذي أعيش فيه. ففي الحقيقة لقد أصبحت النتيجة واحدة فأنا مهمش بسبب العرق والمنطقة وهو مهمش ربما أكثر بسبب الفكر والمعتقد وأسلوب الحياة الذي إختاره ويحاول أن يحياه وبعد فهو ميسور مادياً ومشاكله الإقتصادية في الحدود الطبيعية ففي النهاية هو من المركز وله شبكة إجتماعية فعالة واسعة تسعفه ولكن هذا لن يحله من القطيع. فالمجتمع كان ولا زال عشائرياً جهوياً وفوق ذلك آيدلوجياً ويعتنق ثقافة عريقة قوية ضاربة في القدم تسبب ضرراً حتى لأفراده المستفيدين منه ، فإذا لم نقم بكسر هذه الجهوية العشائرية عن طريق الإستقطاب على أسس فكرية فلن يكون هناك فائدة حتى عصر يوم القيامة كما نقول كسودانيين ، وللمرة الخمسون بعد المائة سنظل نكرر أن لابد من تمزيق المفاهيم القديمة.
ماهي المفاهيم القديمة؟
لماذا يعتقد أفراد المركز المستنيرين والذين لديهم فوبيا من تقرير المصير أن القومية يجب أن تكون من المركز ولكن عندما تأتي الدعاوى من مناطق أخرى فهذا تمزيق للقومية؟ إذا كنت أنت أصلاً لم تستطع أن تصنع هذه القومية وتكللت كل المحاولات التي إتبعت هذه المقاربة بالفشل. فالمشكلة ليست في القوميات التي تطالب بتقرير المصير المشكلة في المجتمع الذي لايريد ولايمكن أن يتقبلها كشريك حقيقي تحت الظروف الموضوعية الحالية ، وهذا الحوار بعد الإستقلال فقط ناهيك عن الحقب التي قبله أخذ منا ستون عاماً ونيف. لقد كانت دعواتك صادقة أن آتيك أنا وأن نغير هذا المجتمع سوياً ولكن هذا قد تعذر تماماً ولا نقول أنه مستحيل ولكنه أبعد من أي وقت مضى وليس في يدك أو يدي شيء لنفعله ، ستقول أن الإنقاذ ستذهب ، الصورة واضحة الآن ، إن الطائفية وبعض من مخلفات الإنقاذ نفسها وعدة أشباح علمانية هزيلة تنتظر سقوط الإنقاذ (وستسقط الإنقاذ) وهي تبتلع ريقها بشراهة لترث الأمر. فما الذي يمنع أن تأتيني أنت هذه المرة لتساهم في صنع مجتمعات جديدة تختلف عن المركز المتقيح ، وبالتأكيد ستواجه بالرفض كدخيل في هذه المجتمعات كبداية ولكن هذا الرفض سوف لن يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بالرفض الذي تواجهه الهوامش في المركز ، وبقليل من الحكمة والتوعية والإجراءات الإجتماعية سوف لن تكون هناك مشكلة من النوع الموجود في المركز بل وما الذي يمنع أن تحكمني أنت هناك؟ فإذا عملنا بطريقة صحيحة في أرض من المفترض أنها من حيث تقبل الآخر أكثر خصوبة من المركز أو ليست لديها أيدلوجيا تمنعها من التعايش فإذا أخذنا جبال النوبة كحالة مثلاً فمن قال أن الذي يحكمني يجب أن ينتمي لإحدى عرقيات النوبة لماذا لاتحكمني أنت القادم من المركز أو شخص من قبائل الفلاتة أو البقارة أو من أفراد دارفور الذين يعيشون هناك طالما نحن ملتزمين قانوناً ودستوراً وقبل ذلك مجتمعيا وهذا الأهم بالعقد الإجتماعي الذي توافقنا عليه ، أما من لهم أوهام عرقية أو إسلاموية من النوبة حتى لو شكلوا نصف العدد فالأجدر بهم كما قلنا أن يذهبوا إلى المركز ليشكلوا تحت قيادة المتعصبين أمثالهم هناك الأورطة العسكرية من النوبة لفتح جبال النوبة من جديد لصالح المركز.
ما أردت أن أقوله في هذه الفقرة الطويلة والتي بدأتها بحكاية صديقي بأنه لماذا لانقرر مصيرنا معاً أنا وصديقي هذا ونصنع مركزاً جديداً نكون فيه في خندق واحد ضد نظرائنا من نفس عرقيتي وعرقيته والذين يحملون فكر المركز القديم في الجانب الآخر ، نقاتل معاً بالعلم والقلم والبندقية حتى نثبت المركز الجديد فلربما يجر معه المركز القديم (غالباً عندما تحدث النهضة في منطقة ما فإنها تجر معها ما حولها). فأنا عندما أطالب بحق تقرير المصير ليس لأني أريد مكاناً أكون فيه نوباوياً الأصح أني أريد مكاناً لا أكون فيه نوباوياً ، أريد مكاناً لا أكون فيه سوى إنسان .. إذا تعذر هذا المكان هنا .. فلماذا لا نصنعه هناك؟!
الوطن:
هذا يقودنا إلى فكرة ومفهوم الوطن ، ماهو الوطن؟ الوطن ليس الأرض الوطن هو فكرك وقناعاتك الحياتية القابلة للتجديد والتي لاتحبسها النصوص والمقدسات التي تعلوا فوق حياة ورفاهية الإنسان وإرادته الحرة حتى إن أراد شيئاً لايحبه الله ولكنه لايضر ولايعني في شيء أخيه الإنسان الآخر في مجتمعه. إن الحركة الصهيونية لم تكن تطالب لزاماً بأرض فلسطين وطناً ، بل كان من المقترحات مساحة من الأرض في يوغندا وكذلك أستراليا ، فالوطن كان حالة في عقولهم يمكن أن تطبق في أي أرض. بعد فإن جبال النوبة والنيل الأزرق أو دارفور أو شرق السودان ليست أرض الميعاد ، فإذا كنا نعتقد ذلك لأننا نوبة أو فور أو بجة فليس لنا أرض ميعاد ، وسيكون لنا أرض ننتزعها ولو بعد زمن طويل لنعيد فيها إنتاج المركز .. إن أرض الميعاد في عقولنا كيهود فكريين مؤمنين بسودان جديد أصبح منكوراً من عتاة وأباطرة المثقفين ونحن مشتتين بين الأعراق والعشائر والمناطق وقد أصبح من قبيلتنا من يطالبنا بأن نوضح ما هو السودان الجديد؟ إذا كنت أن أبطوراً أو أبطورة من أباطرة آبائنا وأمهاتنا الأولين الذين رسموا الخارطة العلمانية في هذا البلد فهل من المعقول أنك لاتعرف ماهو السودان الجديد؟ .. وأصبح يتم طرح السؤال كأنك تحشر ملاكماً في الزاوية ، لماذا لاتجاوب عن السؤال أنت بنفسك وتعتبره مساهمة فكرية منك؟ أم لأنك تنظر لطارحي الشعار بالتوجس العشائري الذي طرحناه في البداية؟ لأنك لازلت هناك بعيداً في أقصى عقلك الباطن في مكان لاتدريه أنت نفسك – ولو دريته لجننت لأنه لن يطابق صورتك عن نفسك – لست سوى مثقف العشيرة. السودان الجديد هو العلمانية التي يقف عليها أولو أمر راشدين حتى لو كان دكتاتوراً رشيداً إلى حين ، حتى تمشي برجليها بين الناس كما حدث في عدة أماكن ، وهذه دعوتك أنت التي تدعوها من داخل عشيرتك دون أن تدري وعندما أتت من عشيرة أخرى أصبحت حصان طروادة وأزلام وأصنام سميتموها السودان الجديد.
فرض الكفاية والعين:
هذا يدعونا لأن نقتبس من الثقافة الإسلامية نفسها مفهوم فرض العين والكفاية بدعوة كل من يحمل بذرة السودان الجديد أو أي بذرة علمانية مخلصة لمن لايحبون الإسم بغض النظر عن عرقه أو منطقته وتسمح له ظروفه الموضوعية بذلك من المثقفين المتفرغين والقادرين ، بالتوجه أفراداً وزرافات لمناطق النضال المختلفة على الأقل كفرض كفاية يسقط عن الباقين إذا أداه البعض على أن يكون البعض مؤثراً بغض النظر إن كانت النتيجة ستكون تقرير المصير لتلك المناطق ، على أن يخذل عنهم الذين لم يقوموا بالفرض بكل ما هو ممكن لمساعدتهم كطليعة تقوم بكسر الطوق العرقي والعشائري والمناطقي حتى يتمكنوا هم أنفسهم من فعل ذلك لمن له الرغبة بعد أن تصبح الظروف مناسبة.
ما يجب عمله هناك؟
أعتقد أن هؤلاء الطليعة يمكن أن يجيبوا على هذا السؤال بأفضل مني ، فغني عن القول أن هناك حاجة لكل شيء هناك ، يجب أن تعمل هذه الطليعة جاهدة يداً بيد مع أقرانها هناك على إحلال حياة مدنية فاعلة في جميع المجالات وتقوية المجتمعات – Communities empowerment – ونقل الخبرات التي قد تكون توفرت لهذه الطلائع ولم تتوفر لأعداد كافية من أفراد الهامش بسبب الظروف غير الطبيعية التي مرت بها هذه المجتمعات فكل شيء مطلوب من تعليم ، صحة ، إدراة ، هندسة ، حتى التجارة والأعمال وغيره من المجالات كما يمكن أن يكون لهذه الطليعة دور فعال في فض النزاعات كعناصر لايشك أحد في حيادها من المكونات المحلية البدائية من القبائل والمجموعات السكانية الأصلية. الأمر في جملته يحتاج إلى ورش عمل وتنسيق بين جميع الأطراف ورؤية قبل القيام بأي شيء.
إن المساهمة في ترسيخ حياة مدنية أو حتى محاكاتها بشكل أكثر توسعاً حتى تتوفر ظروف طبيعية لا يقل أهمية عن حمل السلاح ، بل أن هذا السلاح يجب أن يتم إسكاته نهائياً في مرحلة ما ، ومن حملوه يجب أن تأتي مرحلة يتم إبعادهم فيها تماماً عن التدخل في الحياة المدنية إلا إذا أصبحوا مدنيين ، إن المقاربة الصحيحة لمن ناضلوا بالسلاح أنهم كالأب الذي ضحى من أجل أبنائه ليقدم لهم حياة يعيشونها كما يريدونها هم وليس كما يريدها هو ، طالما تم الحفاظ على الأسس التي تم من أجلها حمل السلاح والتضحية برفاهية ومستقبل شعوب وأجيال بكاملها.
إن الدعاوى من أمثال من أراد السودان الجديد فليأتي بعشيرته للميدان دعاوى غير منطقية ، الأصح أن من أراد السودان الجديد فليأتي هو إلى الميدان أو يدعم الميدان ، وهذا الميدان ليس بالضرورة ميدان العمليات الحربية ، فهناك من يريد أن يفتك من عشيرته نفسها فكيف سيتسنى له أن يحضرها إلى الميدان؟ إذا كان هناك أصلاً إمكانية أن يحضر هذه العشيرة إلى الميدان تحت الظروف الموضوعية الحالية والتي ناقشناها في مناسبات سابقة لما كانت الحرب مستمرة حتى الآن ولما إنفصل الجنوب إن هذه العشيرة تحاربه هو نفسه والآخرين ، ومن نفس عشيرتك هناك من يقاتلك في الجانب الآخر مع المركز بشراسة يمكن أن تحرر نصف الكرة الأرضية أحياناً فقط لأنه يتقاضى مرتب لفعل ذلك والأدهى أن بعضهم يفعل ذلك عن إقتناع. هذا لايعني التشجيع على إستمرار إحتكار ميدان القتال على عرقيات محددة ، فيجب إتاحة الفرصة للراغبين من القادرين والمؤهلين لحمل السلاح من العرقيات التي لم تكن تقليدياً من حملة السلاح ضد المركز على فعل ذلك على أسس فردية ، مع محاولة إختراق هذه العشائر لتغير موقفها ربما يأتي اليوم الذي تحمل فيه هذه العشائر السلاح ضد المركز وسيكون هذا هو الفعل العشائري الوحيد المحمود في ما ندعوا إليه أو ربما كفى الله المؤمنين شر القتال بعودة المركز إلى رشده (رغم أنه أصلاً قد ولد معتوهاً ولم يكن راشداً في يوم ما) أو التحلل من هذا المركز بصنع مراكز جديدة تفرغه من مضمونه وحتى من سكانه إذا ساهم في صناعتها جميع المعنيين بالشكل الذي وصفناه.
لو كان هذا ما حدث قبل إنفصال الجنوب ولو لم يكن قد تم الإستسلام للقوميين الجنوبيين وحلفائهم من المؤتمر الوطني بعد رحيل قرنق لربما ما كان الجنوب قد غرق في هذه الفوضى ولربما لم يكن قد إنفصل ، ولربما كان الإنفصال قد تم بترتيبات وشروط داخل بيت السودان الجديد بالشكل الذي ذكرناه ولكان هذا محرجاً للخرطوم ومحصناً للجنوب من النزاع بدلاً عن إنفصال أعراق متألمة دون هدى تم خيانتها في الشمال والجنوب معاً ، إلا أني بعد كل هذا لازلت مقتنعاً برغم أنهم قد إختاروا الطريق الصعب وإستهلوا البداية الخاطئة إلا أنهم سيصلون وليس بعيداً جداً كما يتصور البعض لأنهم لايحملون بين جنباتهم ذلك المرض ، المرض الذي نعرفه جميعاً ، إنهم يقتلون بعضهم بدعاوى بدائية سيسأمون منها قريباً ، نحن نقتل بعضنا بدعاوى حضارية متصلة بالسماء مباشرة وإن كانت تمر عبر الكروش والفروج. وهذا لايعني أن الهدف الآن منع تفكك الأطراف فبدلاً من الوحدة على أسس جديدة نحن ندعوا الآن إلى تفكك بأسس جديدة فما لايعرفه الطيب مصطفى أن الجنوب لم يكن السرطان ، وجبال النوبة ودارفور والشرق وأبيي لم تكن صداعاً وإنما المركز هو السرطان والإيدز والإيبولا وجنون البقر في مراحله الأخيرة وحمى الضنك ، خاصة الأخيرة هذه فنحن نشعر بالضنك ولكننا الآن هائمون كالبهائم بلا راعي ولن يتسنى لنا الذهاب إلى الطبيب وبهذا الوصف فلا بد أن يكون هناك بطري مسئول يشعر بالحالة ويداويها ولكن للأسف القرية ليس فيها حتى بصير.
صعوبة الطريق:
بالنسبة للهامش فإن الطريق رغم وضوحه ليس سهلاً فإن سنين طويلة من العنصرية والعنصرية المضادة وسيكولوجية الإنسان المقهور والعزلة الدفاعية وماكينزمات البقاء الغير صحية والخوف من الإختراق .. إلخ ، وهذا الوصف ينطبق إلى حد كبير مع فروقات غير جوهرية على القطاعات المعنية في المركز أيضاً ، ستجعل الطريق صعباً لتقبل الآخر ولكن ليس مستحيلاً.
ولهذا فعلينا أن نعترف بعد كل هذا الحديث أن الدرب ليس سالكاً لرسم ما سقناه على الأرض فهناك صعوبات عملية مفهومة ومقدرة ، فالمريض نفسه يقاوم العلاج قبل أن يقاومه المرض وهذا ينطبق على جميع الأطراف المقصودة بهذا الحديث ، فالهامش نفسه سيقاوم المصل لتفتيت العشائرية التي كانت موضوعنا والمصل نفسه سيأخذ وقتاً طويلاً ليتم تطويره لينفصل عن المرض العشائري ويقتنع أنه مصل يجب أن يتم حقنه لتفتيت هذه العشائر نفسها أو تخفيفها إلى شكل أكثر تحضراً في الطريق إلى تحولها بجميع ثقافاتها مركزاً وهامشاً بلا إستثناء إلى فلكلور ليس إلا.

كوكو موسى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock