مقالات وآراء

مِهْنِيّة الصَحّافَة: بَيّنَ النَظّرِيّة و التَطْبِيقْ قراءة في تصريحات نائب رئيس الجمهورية د. جيمس واني إيقا

كما ارودتها الاستاذة مها التلب

“في عالم الصحافة، هنالك احتقان دائم بين الرغبة للتفرد بإيراد الخبر، و بين تقديم الخبر صحيحآ و بتجرد”
إيلين قودمان

مدخل:
نقلت صحيفة التيار، الصادر يوم السبت الموافق ٢٣ سبتمبر ٢٠١٧، تصريحات صحفية ادلي بها نائب رئيس جمهورية جنوب السودان، الدكتور جيمس واني ايقا، قام فيها بتحذير رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان_ شمال، الفريق عبدالعزيز آدم الحلو من تبني حق تقرير المصير؛ (صحيفة التيار، ٢٣ سبتمبر)
لغرابة هذا التحذير، و لاسباب كثيرة، سنتاولها لاحقآ في مقال منفصل عن حق تقرير المصير كمدخل للوحدة الطوعية، انتظرنا نص الحوار لتقصي سياق هذه التصريحات، الا اننا، و لسببِ ما، تفاجأنا بان الحوار لم يتضمن (التحذير) الذي كان (مانشيت) الصفحة الاولي للصحيفة، بل احتوي نص الحوار علي راي تقدم به نائب الرئيس في اطار تعليقه علي التطورات الاخيرة داخل الحركة الشعبية_شمال و تداعياتها، الشئ الذي اجاب عليه باسداء النصح لرئيس الحركة الشعبية_شمال، الرفيق عبدالعزيز آدم الحلو، مصحوبآ بمسوقاته و قناعاته، اختلفنا او اتفقنا معها.
و لان هنالك فرق شاسع بين مفهومي (التحذير) و (التناصح) من حيث السياق و المدلول، و لحساسية التصريح الذي تَبَطّنَ العديد من الإيحاءات و الرسائل الضمنية، توقفنا كثيرآ عند هذه النقطة و حاولنا ان نقرأ هذا (التآويل) علي ضؤ القيم و المبادئ العامة التي تؤطر لمِهْنِيّة و نزاهة العمل الصحفي.
عليه، و إيمانآ منا بقدسية معايير العمل الصحفي و القيّم التي تُثَبِتُ و تَصُّونُ مبدأ النزاهة الصحفية، سنستعين بوثيقة معايير العمل الصحفي الخاصة بمعهد قناة الجزيرة للاعلام، كمدخل لفهم القيم العامة للصحافة (النزيهة)، مع الاخذ في الاعتبار ان هذه القيم العامة ربما لا تعبر عن توجهات صحيفة التيار او الاستاذة مها التلب، لكنها قيم و مفاهيم عامة، و تكاد تشكل ابجديات العمل الصحفي؛ و ان كان الامر كذلك، سنستميحهم العزر إذ لا يٌصّحْ انْ يٌقَيّمْ ادائهم وفقآ لمعايير و قيم لا تعبر عنهم.
#معايير_العمل_الصحفي:
وفقآ لوثيقة معهد الجزيرة للاعلام، هنالك قيم و مفاهيم عامة تمثل العمود الفقري للعمل الصحفي، منها “الموضوعية” و”الحياد” و”النزاهة” والتوازن. هذه المفاهيم المتداولة، رغم ان تعريفها قد يفضي الي خلاف فلسفي، الا انها تمثل معايير العمل الصحفي و السقف الاعلي لنزاهتها. (معهد الجزيرة للاعلام، ٢٠١٧)
#الحـــياد..
المقصود بالحياد: عدم تضمين الخبر أي موقف شخصي من الصحفي.
انظر المثال التالي:
“أجّلت الحكومة قرارها برفع الرواتب، وتعد هذه الحكومة حكومة مراوغة”!!!
من الواضح أن هناك تدخلا من الصحفي الذي كتب الجملة السابقة، لكن الحياد يتطلب منه نقل الخبر فقط ..
ويمكنك الآن النظر إلى الصياغة التالية:
” أجّلت الحكومة قرارها برفع الرواتب. واتهمت قوى المعارضة الحكومة بالمراوغة”
لاحظ الفرق بين الصياغتين وأن الحياد يتطلب منك نسب الصفات والاتهامات وما شابهها إلى مصادرها لتكون بعيدا عن التدخل في الخبر.
#الموضوعية
والمقصود بها تجنب التدخل ولو عن طريق الإيحاءات غير المباشرة في الخبر. و تقتضي الموضوعية أيضا نقل الخبر من دون إضافة أو نقصان. فمثلآ، يمكن صياغة الخبر علي النحو التالي:
“اتهمت وزارة الدفاع الأمريكية الجيش الإيراني بإطلاق النار على زورق تابع للبحرية الأمريكية”.
ولا يصح ان يقول الخبر:
“أطلق الجيش الإيراني النار على زورق تابع للبحرية الأمريكية” إلا إذا كان لدي الصحفي/الصحفية ما يثبت ذلك من خلال الصورة أو من خلال الاعتراف الإيراني بالحادث، وهو ما سيخرج الأمر من دائرة الاتهام إلى دائرة التأكيد.
#النزاهـــة
وأول ما يقصد بالنزاهة هو عرض الخبر من دون اجتزاء.
مثال: “قالت الشرطة إنها ستطلق النار على المظاهرة”.
لكن الخبر ووفقا للبيان الصادر عن قيادة الشرطة هو:
“قالت الشرطة إنها ستطلق النار على المظاهرة إذا تطورت إلى هجمات على قوى الأمن”.
كما أن النزاهة تتطلب من الصحفي/الصحفية متابعة الخبر وتطوراته وعدم التوقف عند نقطة ملل أو كسل أو سهو، فإذا تراجعت الشرطة عن قرارها وتهديدها للمظاهرة المشار إليها فعليك أن تقول:
“تراجعت الشرطة عن تهديدها بإطلاق النار على المظاهرة”.
#التـــوازن
والمقصود بالتوازن، هنا، عرض وجهات نظر أطراف الخبر دون إغفال أيٍ من تلك الأطراف. وفي التوازن أيضا، فإن الأمر يتطلب من الصحفي/الصحفية توخي الدقة في عرض وجهات النظر أثناء صياغة الخبر، والدقة، هنا، تتطلب التأكد من المعلومات من أكثر من مصدر، كما تعني عدم تأويل ما يأتي في الخبر، إلى جانب التركيز في انتقاء المفردات خلال عملية الصياغة..
لاحظ الأمثلة التالية:
-باراك أوباما يبحث ملف الإرهاب في اليمن.
-باراك أوباما يبحث في اليمن ملف الإرهاب.
الصياغتان متقاربتان، لكن هنالك فرق بينهما!
لاحظ أيضا الفرق بين كل من الصياغة التالية وسوف نلاحظ أن استخدام الصحفي /الصحفية لكلمة دون أخرى يغير كثيرا في معنى الجملة،
تآمل في الصياغتين التاليتين:
وهو أحد الذين ساهموا في أحداث 11 سبتمبر.
وهو أحد الذين شاركوا في أحداث 11 سبتمبر.
(معهد الجزيرة للاعلام، ٢٠١٧)

مَا بَيّنَ نَصّائِحٌ (إيقا) و تَحْذِيرّاتٌ (التِلِّب)، أسْئِلة
مَشْرُوْعّة عَنْ المِهْنِيّة….
بناء علي ما سبق، و استدلالآ بقيم و معايير العمل الصحفي المنشورة اعلاه، يجد المرء نفسه في خضم تساؤلاتِ كثيرة عن مغزي الاختلاف الجوهري الكبير بين نص الحوار و الطريقة التي تم بها إيراد هذه التصريحات، خاصة ان الاستاذة مها التلب صحفية متمرسة و لها تجربة معتبرة في عالم الصحافة!
فبحكم متابعتنا لتطورات الخلاف الذي اجتاحَ الحركة الشعبية_شمال، ندرك ان حق تقرير المصير كانت من القضايا الخلافية و الجوهرية التي ادت الي الوضعية الحالية التي تمر بها الحركة، اذن ليس من السهل تجاوز تآويل تصريح نائب رئيس جمهورية جنوب السودان و إدراجها بهذا الشكل للاسباب التالية:
اولآ، هذا التآويل يُحَرِّفُ تصريحات نائب الرئيس من مقاصدها، و يعطيها بُعدآ ضمنيآ يوحي بمعارضته لحق تقرير المصير لاقليم جبال النوبة، رغم ان جلَّ ما يمكن استقصائه من التصريح هو إقراره بعدم ملائمة المناخ السياسي للمطالبة بحق تقرير المصير. ضِف الي ذلك، بما انه، اي د. جيمس واني إيقا، تم محاورته بصفته الدستورية، هذا قد يُوْحِي، ايضآ، بان التحذير المُسْتَّرَجَل، هذا، يعبر عن مواقف حكومة جنوب السودان!
ثانيآ، بما إنَّ حق تقرير المصير كانت من القضايا الخلافية و الجوهرية التي ساهمتْ في تفاقم صراعات الرفاق في الحركة الشعبية لتحرير السودان_ شمال، الطريقة التي أُوْرِدّتْ بها هذه التصريحات قد يُسَّأء فهمها بان حكومة جنوب السودان، ممثلةً في نائبِ رئيسها، اصبحت طرفآ في الصراع القائم، بل و حسمتْ مواقفها لصالح احد طرفي الصراع، وهذا بالطبع يُعْد ضربآ من الخيال الجامح، فالرفقة الطويلة التي جمعته بطرفي النزاع و موقعه التنظيمي في الحركة الشعبية ، قبل فك الإرتباط، يلزمه اخلاقيآ بتبني تقريب وجهات النظر و ليس الانتصار لطرفِ ما. علاوة علي ان، شعب جنوب السودان ، خاصة عضوية الحركة الشعبية، له ارتباط وجداني برفاق الامس ، و عليه إلتزام اخلاقي تجاه قضاياهم، و اكاد اجزم ان نائب رئيس الجمهورية يعي ذلك تمامآ و يتفهمه.
ثالثآ، الاستاذة مها التلب كانت و مازالت قريبة جدآ من دوائر الحركة الشعبية المختلفة، جنوبآ و شمالآ، لذلك حينما تَوْرَدُ تصريحات نائب رئيس الجمهورية، هكذا، خارج سياقها، بحيث تتحول النصيحة الي التحذير، فذلك يثير تساؤلات عن حقيقة نزاهتها و مدي توازنها و حيادها و موضوعيتها في نقل و إيراد الاخبار بتجرد و من غير تآويل. هذا بالطبع، يمكن ان يضر بسمعتها الصحفية و يؤثر في ثقة القراء في ملفاتها المتميزة.
عمومآ، ليس هنالك ما يدعونا للظن بان هنالك نية مبيتة من وراء هذه الهفوة، فالاستاذة مها التلب صحفية متمكنة و مقتدرة، و ما التكريم و الجوائز التي نالتها مؤخرآ الا تتويجآ لتميزها. لكن في مثل هذه الأجواء المشحونة، نتمني منها ان تتوخي الدقة في ايصال المعلومة، كما هي، مجردة من الإيحاءات، او علي الاقل، كما يتطلبه معايير مهنتها. ختامآ، و بما انها، اي الاستاذة مها، من الصحفيات المقربات جدآ من الشارع الجنوبسوداني، كان لزامآ عليها ان تستدرك بان مزاج هذا الشارع، انطلاقآ من تاريخ نضاله المشترك مع رفاق الامس، لن يبتلع مثل هذه التآويلات، و حديثي هنا، ايضآ، من باب النصيحة و ليس التحذير..

اندرو كوات قرنق
٢٧ سبتمبر ٢٠١٧

مقالات ذات صلة