مقالات وآراء

موسيقى الزنق: ثقافة مقاومة ام انحطاط

في دولة المقاييس الأحادية ولكن المتناقضة في ذات الوقت فان الظواهر الاجتماعية كثيرا ما يتم النظر لها بشكل سطحي، وتلك السطحية غالبا ما تؤدي إلى استنتاجات سلبية. في السنوات الأخيرة ظهر في السودان نوع موسيقى جديد ولكن ينبع من انواع أخرى قديمة من الموسيقى السودانية تسمى موسيقى الزنق. وهى إذا أردنا وصفها لا تعريفها، لأنه لم تقم جهة أو أشخاص متخصصين بالبحث فيها لتعريفها علميا، فتوصيفها هو أنها موسيقى صاخبة أفريقية حتى النخاع وذات إيقاع راقص ومبهح واحتفالي. وهي انتشرت في الحفلات الخاصة في المناسبات الاجتماعية مثل الزواج وغيره، لكن لها أيضا جمهورها الذي يستمع لها بشكل مستمر خارج هذه المناسبات، بل يعتبرها موسيقاه المفضلة خاصة الشباب.

ان الطبيعة الراقصة والصاخبة والكلمات البسيطة لأغاني موسيقى الزنق والتي ارتبطت بما يسمى بغني البنات والذي يسميه البعض الغناء الهابط، جعل البعض ينظر إلى هذه الموسيقى نظرة دونية ويصفها بالموسيقى الهابطة. ولكن كما يقول أبكر آدم إسماعيل في روايته الطريق إلى المدن المستحيلة في تعليق على ذات عبارة الغناء الهابط ( عندما تكون في القاع فإن أي حركة هي صعود للأعلى). وهي كذلك لا محالة. فان نجوم موسيقى الزنق من والعازفين والمغنيات من النساء في الغالب وبعض الشباب، نجوم هذه الموسيقى هم في معظمهم من الهامش أو من ذوي الأصول الأفريقية. كما أن هذه الموسيقى خرجت من أحزمة الخرطوم السوداء حيث أن القمع يجعل من الموسيقى والرقص هو المهرب والمتنفس الوحيد لمجموعات من البشر لا تجد ما يمثلها في هذه المدينة.

فالخرطوم عاصمة دولة المشروع الحضاري الاسلاموي العروبي ناكرة تماما لافريقيتها. لذلك فإن كادحي المدينة من المهمشين والنازحين وغيرهم من الذين يشعرون بالتمييز وانعدام الانتماء لثقافة هذه المدينة صنعوا لأنفسهم مساحات تعبير خاصة بهم، تحمل ما يشبه آلامهم اليومية الصاخبة كتلك الموسيقى ويذكرهم بجذورهم الأفريقية المحبة للحياة حيث الموسيقى في مناطقهم الأصلية هي الاحتفال بالحياة وباالموت وبالمقدس والدنيوي في ان معا. لكن دولة المشروع الاسلاموي العروبي لم تمنعهم فقط من أن يجدوا أنفسهم في شاشات التلفزيون الوطني أو إذاعة الدولة والتي لا يسمعون فيها قط لا لغاتهم ولا أغانيهم ولا موسيقاهم، ولكنها أيضا حظرت عليهم افراحهم الصغيرة في مدن الصفيح النائية تلك عبر شرطة النظام العام وملاحقاتها وقوانينها التي تحاول أن تكتم صوتهم.

لكن هذه المجموعات الهاربة من الموت في أراضيها ومن قسوة حياتها اليومية لم تستلم لهذا القمع. حيث صدحت موسيقى الزنق وخرجت من الحزام الأسود إلى كل منازل السودان وأحياءه وأصبحت ثقافة شبابية وظاهرة اجتماعية، يرفضها الكثيرون نهارا لكنهم لا يمانعون الرقص على أنغامها ليلا،و في داخل منازلهم. في بلاد مثل مصر بعد الثورة المصرية ظهرت موسيقى تسمي موسيقى المهرجانات هي أيضا موسيقى صاخبة وذات طبيعة راقصة وكلمات شعبية، رغم أن بعض الموسيقيين هاجموها لكن الكثيرين اعتبروها نتاج ثانوي للثورة باعتبارها وسيلة تعبير لسكان المناطق الفقيرة والعشوائية في القاهرة، يعبرون بها عن أوضاعهم التي يسيطر عليها العنف والفقر. ولكن في السودان تفوم ثقافة المركز بإصدار أحكامها دون نظر عميق، أو رغبة في فهم الظاهرة.

المدهش أن موسيقى الزنق وغناء البنات الذي تمارسه في الغالب مغنيات من الهامش، قد استطاع أن يكسر الحواجز وان يقتحم حتى أجهزة الاعلام، واصبح نوع الموسيقى الأكثر رواجا في السودان. بل أصبح تجارة وصناعة فنية ذات مدخول عالي ووسيلة الترفيه الأولى تقريبا في السودان. حتى أن الكثير من المغنين والمغنيات من المركز تبنوا هذا النوع نسبة لشعبيته التي فرضت نفسها. ان هذه الظاهرة في الانتشار والنمو تشبه ما حدث لموسيقي الهيب هوب في أمريكا، حيث أنها كانت في الأساس صوت السود المضطهدين في الأحياء الفقيرة والذين كانوا يعبرون عن غضبهم من أوضاعهم الاجتماعية والعنصرية الممارسة ضدهم عبر صناعة موسيقى جديدة لا تشبه موسيقى البيض السائدة. وبعد عقدين من الزمان أصبحت موسيقى الهيب هوب هي الأكثر رواجا على مستوى العالم والمسيطرة على الثقافة الشعبية في الولايات المتحدة للبيض والسود وغيرهم.

ان موسيقى الزنق هي إحدى ألوان التعبير الثقافي الاجتماعي الفني عن الرفض لما هو سائد وما هو مفروض بالقوة من ثقافة وموسيقى وفنون رسمية تتبناها الدولة. كما أنها وسيلة رفض ومقاومة أيضا للقمع المستمر والفقر المدقع والتمييز الثقافي والأثني. حيث أن المجموعات الأفريقية داخل الخرطوم وغيرها لم تتعايش مع شروط تلك المدينة التي تفرض عليهم المواطنة من الدرجة الثالثة، بل ابدعوا هم وسائل المقاومة ضد الإحباط والاضطهاد عبر موسيقى تعبر عن هويتهم والامهم و افراحهم. وبقوتها وصدقها غيرت خارطة الموسيقى في السودان ككل وجعلت صوتها مسموعا كما أنها صنعت تحولا اقتصاديا كبيرا جعل من الدخول في هذا المجال موردا مربحا اقتصاديا اخرج الكثير من الأسر من المعاناة والفقر المدقع. يجب أن نحترم ما تبدعه هذه الشعوب المقهورة من الهامش وأن يتم إعادة النظر في قدراتها العالية علي المقاومة وصناعة سبل العيش وإبداع ثقافة مقاومة شعبية صنعت تغييرا حقيقيا على الأرض في الموسيقى والملابس واللهجة في كل السودان، وذلك دون أن يمتلكوا قناة تلفزيونية أو راديو أو حتى موقع إلكتروني ودون أن يشكلوا حزبا سياسيا أو حتى أن يتحدثوا عن السياسة. انهم يصنعون تغييرا ثقافيا اجتماعيا اقتصاديا عميقا في المجتمع السوداني وهو التغيير الحقيقي الذي يحاول السياسيون الحديث عنه دون تحويله إلى واقع. يجب أن يعي المركز والهامش أن التغيير في السودان لم يعد فقط بيد السياسيين بل هو سلسلة من التغييرات التي قد تبدو غير مترابطة ولكنها مجتمعة سوف تصنع تحولا ربما سيعجز الساسة عن السيطرة عليه كما يرغبون إذا استمروا في تجاهل تفاصيل الواقع السوداني المعقد والمتشابك ولم ينتبهوا الي التغييرات على كل المستويات وليس جانب السياسة فقط.
عثمان نواي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أزيدك من الشعر بيت انا عندي صاحب عازف كل الصولات جايبينها من الأغاني الكنغولية بالأخص الفنانين كوفي اولميدي واويلو لوكومبا حتى الرقص السوداني يعتبر رقص لانو بنرقص بمؤخراتنا لمؤاخذة أو بنحتو حت فمن الناحية انو نحنا افارقة دي مهما عملنا ما حيتغير
    تحياتي