مقالات وآراء

من خرّب إقتصاد السودان ؟

اسماعيل عبد الله

إن الخراب الذي حل بالاقتصاد السوداني تتحمل تبعاته جميع الحكومات التي اعقبت خروج المستعمر من البلاد , ونصيب حكومة الجبهة الاسلامية من هذا الخراب هو نصيب الاسد , يتضح ذلك من خلال مقارنة سعر الجنيه السوداني مقابل الدولار الامريكي في شهر يوليو من العام 1989 , مع قيمته هذه الايام القليلة من شهر فبراير من هذا العام 2018 ميلادي , فالراصد و المتتبع لمؤشر ارتفاع ونزول سعر الجنيه السوداني يلاحظ التسارع الكبير في انهياره في حقبة هذه المنظومة الانقاذية , وخاصة بعد انقسام وانشطار القطر الى دولتين , وذهاب اكثر من سبعين بالمئة من ايرادات النفط الى دولة جنوب السودان , فالقائمين على امر ادارة البلاد من رموز الجماعة الاخوانية , ارتكبوا خطئاً فادحاً بمجرد تسلمهم السلطة , بعد نجاح انقلابهم العسكري المشئوم , وذلك باعلانهم الجهاد وحربهم المقدسة على امريكيا وروسيا , في آن واحد , في سلوك يفتقر الى ابسط ابجديات العمل السياسي و الدبلوماسي , ليس ذلك وحسب , بل شن نظام الاخوان المسلمين حملة اعلامية شعواء على جيرانه لا مبرر لها , في حديث صباحي كانت تبثه الاذاعة السودانية , اشتهر بتقديمه احد ضباط الجيش من الاسلاميين , يدعى يونس محمود او كما يحلو للمعارضين لنظام الانقاذ ان يطلقوا عليه اسم (ديك الصباح) , فتلك كانت حماسة طائشة لم تستند الى عقل ولا منطق , خسرت البلاد بسببها اقوى العلاقات التجارية في محيطها الاقليمي , وبطبيعة الحال ان خسران العلاقات الدبلومساية يعقبه فقدان وضياع للمنفعة الاقتصادية , فوضعت جماعة الهوس الديني البلاد في مواجهة عدائية مع المجتمع الدولي , وصل هذا العداء الى اقصى مراحله , بقيام هذه الجماعة بمحاولة فاشلة استهدفت فيها إغتيال رئيس دولة جارة , فبعدها ولأول مرة في تاريخ الدولة السودانية الحديثة , يلطخ اسم السودان ويوسم بالارهاب و يضمن في قوائم الدول الاكثر شراً وسوءاً , هذا اضافة الى استباحة البلاد من قبل كل رموز التطرف الديني الاسلامي في العالم , بفتح اخوان السودان لبوابة البلاد على مصراعيها , لكل من هب ودب من الموتورين و معتنقي المذاهب الدينية المتطرفة والمتشددة والمثيرة للكراهية بين سكان كوكب الارض.
هذه الفوضى المهووسة التي غرست مخالبها عميقاً في ارض ومجتمع السودان , حرمت البلاد من الانسياب الطبيعي لحركة التجارة الخارجية , فتعطلت المصانع والسكك الحديدية , وانهارت شركة الطيران الوطنية الشهيرة الخطوط الجوية السودانية , بسبب الحظر الاقتصادي الدولي الذي فرض على البلاد , نتيجة لجهالة هذه الجماعة المهووسة دينياً , فاخفقت هذه المؤسسات الوطنية العملاقة في ان تواصل عطائها , وذلك لعدم توفر قطع الغيار لآلياتها امريكية الصنع , وانه كان من السذاجة بمكان ان اعلنت جماعة الاخوان المسلمين في السودان الحرب على امريكا , في ذات الوقت الذي كانت تستخدم فيه طائرات وقطارات مطبوع عليها عبارة صنع بالولايات المتحدة الامريكية , لقد بدأت هذه العملية التخريبية للاقتصاد الوطني , من خلال تلك الاطروحة الخيالية المسماة بالمشروع الحضاري , ذلكم المشروع الهلامي الذي فشل في استثمار ارضنا الزراعية البكر , فلم ينتج لنا قمحاً من مزارعنا ولم يصنع لنا كساءاً من مصانعنا , وهنا يتسائل الناس اين ذهبت اجندة مؤتمر القطاع الاقتصادي الاول ؟ , الذي عقدت جلساته في قاعة الصداقة في العالم 1990 ؟ , واين تلك الخطط الخمسية و العشرية للتنمية الاقتصادية التي طرحت في ذلك الزمان ؟.
بعد استخراج البترول السوداني , تحولت جماعة الاخوان المسلمين الى طبقة طفيلية من المنتفعين من مبيعات هذا الذهب الاسود , ولم تكن اجندة النهضة الاقتصادية الشاملة للبلاد من اولوياتهم , فاستحوذوا على هذه الثروات و اودعوها في حساباتهم بالبنوك الاجنبية و اخفوا ارقامها الحقيقية , فلم تعد تطرح في برلمانهم السكوتي الباصم بالعشرة , ولم تدخل في اي دعم لاي مشروع تنموي , فالفضيحة الكبرى تبينت اخيراً في ان المشروعات التنموية القليلة التي تم انجازها في عهد هذه العصبة الباطشة , قد نفذت بمساعدات و قروض صينية وهندية بالاضافة الى جهات اخرى , بمعنى ان جشع هذه المنظومة جعلها تزيد وتراكم حجم الدين الخارجي بهذه القروض , في الوقت الذي كان فيه انبوب البترول يضخ آلآف البراميل يومياً على ظهور حاملات النفط الرابضة بميناء بشاير و المتوجهة صوب اسواق شرق اسيا , فهذه الجماعة الضالة قد استباحت مقدرات البلاد الاقتصادية , و اكتنزت مواردها في حسابات فردية غير خاضعة لاجراءات الاجهزة المحاسبية و الرقابية , هذا كله تم تحت راية المتاجرة الرخيصة باسم الدين , فجريمة تخريب الاقتصاد السوداني ونهب ثرواته , تتحملها هذه العصبة المتحالفة مع بعضها لتحقيق هدف واحد , هو استنزاف الموارد المالية للبلاد الى اقصى درجات الاستنزاف , ومن ابشع واخطر الممارسات التخريبية لاقتصاديات البلاد , هو ما قامت به منظومة الهوس الديني من تأسيس وبناء لامبراطورية كبرى للفساد , التي يمثل رموزها وركائزها الاساسية عدد من رجال ونساء النظام المتنفذين و المتنفذات , تلك الامبراطورية التي فتكت بقطاع الاراضي في مدن السودان المختلفة , فحولت مؤسسات الدولة السيادية من شاكلة مصلحة الاراضي الى مكان لتجمع السماسرة , و سوق لعقد الصفقات المشبوهة لتزوير وبيع و شراء الاراضي , فتحول موظف الدولة في ظل هذا الحكم الانقاذي الى باحث عن الرشوة و الارتشاء , تيمناً بمديريه الذين ينتهجون ذات النهج السالب في الفساد و الافساد , فاصبحت مسألة المحاسبة مستحيلة , فمن يحاسب من ؟ , فما يطرح من بعض الدوائر الرقابية من مطالبة بضرورة اجتثاث شجرة الفساد من جذورها , ما هو الا لعب على الذقون و ضحك على سذاجة هذه الشعوب السودانية البسيطة.
إنّ التخبط في السياسة الاقتصادية لمنظومة الانقاذ , بدأه وزير المالية الاسبق عبد الرحيم حمدي , بتطبيق سياسة تحريرية لاقتصاديات بلاد كانت ولم تزل ترزح تحت حظر اقتصادي دولي متحكم , ومن عجب ان يطل علينا هذه الايام هذا الوزير عبر النوافذ الاعلامية , ناصحاً و مرشداً ومحذراً من عواقب هذا الانهيار الاقتصادي , الذي كان هو سبباً رئيسياً في وضع لبنته الأولى في بدايات حكم جماعته , فمثل حمدي هنا كمثل ابليس و بني آدم , فبعد ان زين لقومه عمليته الجراحيه الفاشلة التي هشم بها ما تبقى من عظم في بنية الاقتصاد الوطني السوداني المتواضعة آنذاك , جاء اليوم ليضحك على رفقاء امسه ويقول لهم اني بريء مما تفعلون , ونسى او تناسى ان سياسة التحرير الاقتصادي التي تبناها في ذلك الزمان , هي التي ادت الى وضع البلاد في طريق التدهور و الاضمحلال المستمر , الذي ختم بحالة الانهيار الشامل و الانفلات غير المسيطر عليه في سعر صرف الورقة الخضراء هذه الايام.

ismeel1@hotmail.com

مقالات ذات صلة