مقالات وآراء

ماركة العروبة في السودان : أزمة هوية ام صراع سلطة

 

بقلم عثمان نواي

بعد 62 عاما مرت علي استقلال السودان لا زالت البلاد تقف على قارعة الطريق تستجدي القرب وتتوسل الانتماء الي عروبة لا تتواني عن احتقار هذا الاستجداء المذل ولكنها أيضا لا ترفضه بل تستغله إلى أقصى الحدود حين تحين الفرصة. فعروبة ألسودان الدولة التي يصر عليها بعض شعوب السودان ونخبه أحرقت تماما فرص السودان الوطن في صناعة هوية الانتماء إلى الأرض والعلم والقدرة على العيش المشترك بين مكونات الأرض الاصيلة وتلك الوافدة التي اختلطت بأهل الأرض الأصليين، الافارقة السود ، الذين من سوادهم الافريقي بامتياز اخذ السودان اسمه.

ان الفيديو المتداول بشدة منذ يومين، قد أبرز تفاهة (احلام) السودانيين المدعين العروبة قبل أن يبرز ضعف (احلام) الشخص التي لم تستطيع الدفاع عن عروبة رمزية سياسية متوهمة ومصطنعة. فهذا الإصرار العجيب على التشبث بالعروبة لدى بعض الشعوب السودانية هو أشبه بعقدة حقيقية وسخط على الجغرافية التي جعلتهم جزء من قارة يبدو أنهم لا يتشرفون بالانتماء إليها، ولذلك يصرون على التعلق باذيال التاريخ الواهية والانتماء إلى عروبة منهزمة في ذاتها. حيث أن الثقافة العربية التي ربطت نفسها بالدين الإسلامي، هي ليست فقط مجرد ثقافة أخرى داخل السودان الذي احتوى عشرات الثقافات المتعايشة معا بقدر عالي من المساواة. بل إن العروبة نفسها كثقافة وانتماء أثنى وعرقي تم استغلالها لصناعة مواصفات ماركة مسجلة للهيمنة على الدولة والسيطرة على الثروات والموارد، وذلك عبر صناعة تصنيف عرقي أثنى وثقافي مصحوب بقدسية دينية تضع مقاييس جودة معينة تحكم الانتماء والمواطنة في الدولة السودانية.

للأسف أن السودانيون مدعي العروبة الذين كانوا يذهبون إلى الدول العربية كانوا قلة في سنوات الاستعمار وما قبل الهجرات الواسعة للخليج في السبعينات، ولذلك كانت العروبة بالنسبة إليهم هي آلية الفرز التي تحدد القدرة على الوصول إلى شبكة العلاقات المتحكمة في السلطة والثروة في داخل السودان. وكان هذا الانتماء الهوياتي مجديا ومريحا ومربحا ماديا ومعنويا. لكن الاصطدام الذي واجهه المواطن السوداني المستعرب البسيط بحقيقة الرفض له من الاخر العربي الذي يعتقد أنه جزء منه جعلته يدخل إلى نفق إنكار جديد. ففي حال تنازله عن العروبة قد يحصل على بعض الكرامة في الخارج، حين يعترف بافريقيته وزنوجته، لكنه سيفقد الكثير من السلطة والامتيازات في الداخل. وكل مغترب مهما طال به المقام عائد للوطن ليستمتع بأمتيازات ماركة العروبة التي تمنحه مقاعد أمامية مجانية في المجتمع والدولة كمواطن من الدرجة الأولى.

لذلك فإن الاستثمار السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي الذي قام بصناعة ماركة العروبة كمواصفات ومقاييس المواطنة من الدرجة الأولى في السودان، هذا الاستثمار تم على مدى قرون منذ مملكة سنار وتمت عملية الادلجة له في عهد الحراك ضد الاستعمار عبر النخب التي صنعت الاستقلال، والتى قامت بحكم البلاد عبر تلك المواصفات التي تمكنوا من تحويلها من مجرد آلية اجتماعية للتمايز الاجتماعي والأثني والطبقي، تسمى جزافا بالعنصرية أو التمييز الاثني، حولت تلك النخب الحاكمة في بداية الاستقلال ماركة العروبة إلى نظام الحكم في الدولة، وقامت بعمليةتدجين كاملة للشعب عبر نظام التعليم والإعلام لوضع علامة العروبة كمواصفات المواطنة. ومن هنا تمت عملية الإنفصال على مستوى الدولة بين المكونات التي لا تعترف بهذه الماركة المسجلة المصنوعة وبين المكونات التي تعترف بها وتستفيد منها. حيث أن امتياز الحصول على تصنيف العروبة داخل السودان لا يعني عمليا الانتماء الثقافي أو الديني بقدر ما يعني الانتماء إلى الفئة المهيمنة والمواطنة الكاملة في الدولة. وكانت هذه هي وسيلة استبعاد وفرز اجتماعي سياسي مبنى على العنصرية والتمييز الاثني، ولكن العنصرية أو التمييز لم يتم تبنيهم في الدولة السودانية ومن قبل النخب الحاكمة بسبب عقد النقص أو الرغبة في الاستعلاء كخلل نفسي. كلا على الإطلاق. فالعنصرية وأهم منتجاتها الاسترقاق والعبودية هي آليات هيمنة و وسيطرة ذات منافع ودوافع اقتصادية وسلطوية مباشرة.

فأخراج الآلاف من السودانيين من دائرة المواطنة من الدرجة الأولى سمح بمواصلة استغلالهم في ظل الدولة السودانية المستقلة كما كان يتم استغلالهم قبل الاستقلال وقبل إنهاء الرق.. وذلك لأن العنصرية في الحقيقة هي عملية تقليل قيمة بعض البشر لكي يسهل تبرير استغلالهم واستعبادهم بشكل وحشي من قبل بشر آخرين.. حيث لا يمكن ممارسة تلك الوحشية مع البشر المعترف لهم بالإنسانية الكاملة والمساوية مع الذين يريدون استغلال هذا الآخر الذي يعتبرون انه أقل منهم. ولذلك فإن عنصرية الدولة السودانية أدت إلى حروب اهلية وحشية وفي النهاية أدت إلى إبادة جماعية. وهذه القدرة على ارتكاب جرائم بهذه البشاعة لا يمكن أن ترتكب الا ضد من هم (أقل) بشرية أو يحملون مواصفات بشرية أقل في اعتقاد المجرمين ولذلك لا يبالون بقتلهم أو اغتصاب نسائهم، فهم ليسوا مثلهم. لذلك فإن خارطة الحروب بعد الاستقلال في السودان هي نفسها خارطة المناطق التي كانت يتم فيها خطف الرقيق قبل الاستقلال، في تطابق تام لا يمكن أن يفسر الا كجزء من استمرار آلية صناعة الفرز وتحولها إلى دولة عنصرية.

ان الماركة المسجلة للعروبة في السودان هي آلية هيمنة على السلطة والثروة وآلية تصنيف المواطنة للاستمرار في القدرة على استغلال آخرين أو إخراجهم من دوائر المواطنة الكاملة حتى لا يكونون قادرين على المنافسة على نفس قدر المساواة مع أصحاب ماركة العروبة. لذلك هذه الماركة ليست مجرد توهم للهوية أو انتماء ثقافي مصنوع بالخطأ ويمكن تصحيحه. هذا الانتماء للعروبة هو آلية سياسية اقتصادية واجتماعية للفرز بين المواطنين لتحديد دوائر السيطرة على السلطة والثروة في السودان. أي أن هذه العروبة هي ميكانيزم واعي لصناعة أسس الهيمنة على السلطة على أسس غير قابلة للتغيير عبر الانتماء الاثني والعرقى. والذي يقوم بشكل اوتوماتيكي بإلغاء كل من لا ينتمون لمواصفات الماركة المسجلة العروبة من المواطنة في الدولة وبالتالي يعني هذا استمرار الامتيازات لأصحاب الماركة المسجلة الي ما لا نهاية حسب ما يتمنون. لذلك الان فإن الحروب التي تدور في مناطق مختلفة والسماح الجنوبيين بالانفصال والإبادة الجماعية في مناطق أخرى ليس سوى أقصى درجات آليات الفرز للحفاظ على الهيمنة في يد أصحاب ماركة العروبة. لذلك فإن قبول (احلام) بإهانة آخرين أو حتى تهكمهم على ادعائها العروبة هو أمر لا تبالي به هي وأمثالها طالما أنها ستظل عربية في عيون اعارب السودان، وطالما أن هناك من يعتقدون بعروبتهم التي تجعلهم السادة في السودان ولا يبالون ابدا ان نظر لهم الآخرين كعبيد خارج السودان، فالمهم انهم في الداخل لا زالوا أصحاب امتياز ماركة العروبة. مرة أخرى لأن الأمر لا يتعلق بالهوية ولا الانتماء الثقاَفي أو الاثني، الأمور ليست بهذه العاطفية والبساطة والسذاجة. فالنخب التي صنعت ماركة العروبة وروجت لها وجعلتها نظام الدولة و المواطنة والانتماء لم يكونوا أغبياء ولا مجرد عنصرين جهلاء، بل كانوا مخططين مهرة قاموا بدقة بالتخطيط لصناعة آلة الفرز الثقافي المسماة العروبة لضمان السيطرة والهيمنة على السلطة والثروة من قبل مجموعات محددة في السودان. لذلك لا تلوموا عَلى احلام أحلامها، فعروبة المستعربين ليست معنية ابدا بالعرب خارج البلاد، بل معنية بأنهم السادة في داخل السودان. لذلك فإن هذا النقاش هو نقاش بل هو بالاحري صراع سوداني داخلي لا علاقة له البتة بالعرب الذين لا يرون السودانيين عربا، والحقيقة أن المستعربين لا يبالون كثيرا بذلك طالما انهم يظلون عربا داخل السودان. ولكن مع وجود الجيل الثاني من مغتربي الخليج الذين لم يعيشوا في السودان والذين لا يستوعبون ولم يستفيدوا كما يظنون من ماركة العروبة بل كانت سببا في أهانتهم في الخارج، فإن بعض هذه الأجيال ميالة إلى التساول واعادة النظر في هذه الماركة عبر العودة إلى الأفريقية، على الأقل شكليا. لكنهم قريبا سيفهمون أن الوضع في السودان أكبر من مجرد هوية انه صراع على السلطة والامتيازات. لذلك فإن الانكار افريقانية السودان ربما سيستمر لوقت أطول، لكنه في طريقه إلى زوال مع نمو درجات المقاومة لماركة العروبة من داخلها.
nawayosman@gmail.com

مقالات ذات صلة