مقالات وآراء

مأزق القوى السياسية الشمالية

إن العنوان نفسه يوضح هذا المأزق ، أن توصف هذه القوى بأنها قوى سياسية (شمالية) منذ الإستقلال وحتى ما بعد إنفصال الجنوب هذا يؤكد عدم أهلية هذه القوى معارضة وحكومة بأن تمثل ما يسمى بالسودان بأكمله وفوق ذلك ، وهذا هو الإستفزاز الذي أدى لإشتعال الحروب ، عندما تعبر القوى الأخرى عن ما هو واضح كالشمس يتم تدبيجها بالعنصرية ويبدأ التعامل معها عن طريق البوليس السري لتفادي القانون والقوات المسلحة لتفادي كل الأعراف الممكنة ، وظل هذا نمط جميع الحكومات والأنظمة التي تعاقبت سواء كانت في الحكم أو المعارضة مما يدل أن المرجعية النهائية واحدة مهما حاولت هذه القوى أن تبدوا مختلفة.
هذا الأمر كان واضحاً حتى للمراقب الخارجي منذ البداية ولكن كان أبرز من ألقى حجراً في البركة من خارج السودان دون مجاملة هو المفكر الكيني الكبير علي مزروعي (من ضمن أفضل مائة مفكر معاصر) في ورقته المثيرة للجدل في الأوساط الفكرية والثقافية السودانية إلى الآن وإن كان يتم التطرق إليها على إستحياء حتى كاد يطويها النسيان ، ورقته المعنونة بالتهميش المتعدد للسودان – The multiple marginality of the Sudan – والتي ألقاها في مؤتمر بجامعة الخرطوم في فبراير من العام 1968م ، وطبعاً كان على رأس هذه الورقة مسألة الهوية ، الموضوع الذي لا تحبه جميع النخب السودانية وتنظر إليه بعين السخط بجميع توجهاتها ولهذا فقد كان من الطبيعي أن تواجَه هذه الورقة بقدر لايستهان به من الإستياء وعدم الرضى وظلت النخب السودانية تنظر لمزروعي بعتاب حتى رحيله رغم محاولته أخذهم على قدر عقولهم! وإصلاح ذات البين في ما بعد! ملاحظة مزروعي التي لم تكن تخلو من صدمة لدرجة التوافق المدهشة القائمة في الشمال مع الإقصاء الكامل للجنوب ، وطبعاً مزروعي كشخص بريء وضيف لم يكن ليتسنى له أن يرى أن الشمال نفسه قد تم إختزاله في الوسط والشمال النيلي الأمر الذي أصبح واضحاً للعيان في ما بعد. لقد رسم مزروعي صورتين إحداهما غير واقعية للسودان كتخم أفريقي عربي يمثل جسر للتواصل بين هاتين الهويتين ، وأخرى على أرض الواقع عن السودان كمثال لعدم القدرة على التعايش بين هاتين الهويتين مستشهداً بقول السياسي الجنوبي أقري جادين أحد المشاركين في مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب في العام 1965م بأن السودان بلد قد فشل في أن يخلق مجتمعاً واحداً ، وقد سمى مزروعي ذلك بالثنائية المتضادة – Dichotomous duality – بل ومضى قدماً وأعلن السودان كنموزج مثالي – Paradigm case – لهوية أفريقية عربية متضادة. مزروعي لم يتوقف عند ذلك الحد بل وصف عمليات الجيش السوداني في الجنوب بأنها بلا شفقة وخالية من الكوابح الأخلاقية ، وذهب أيضاً لوصف السودان بأنه أحد أكثر الجبهات درامية في المواجهة بين الإسلام والمسيحية في أفريقيا – لاحظوا أن كل هذا الكلام في العام 1968م. وبالعودة للتوافق الذي أدهش مزروعي في الشمال فلقد إستشهد بإنتفاضة إكتوبر 1964م التي أطاحت بحكم الفريق عبود كأول ثورة من نوعها في المنطقة ، إلا إن الوفاق الشعبي في الشمال للقيام بإنتفاضة لإطاحة عبود لم يكن الشيء الوحيد الذي أذهل مزروعي بل كان إستجابة الحكام العسكريين للمزاج الشعبي والتنازل عن الحكم ، بالإضافة لعدم التجريم الذي قوبلوا به من تجاه الشعب بعد ذلك. لقد قام مزروعي بمقارنة الوفاق الذي شهده في الشمال مع الإقصاء للجنوب ليعبر عن ذلك بأن العلاقة بين الشمال والجنوب تمثل واحدة من أشد أزمات الشقاق حدة في القارة الأفريقية ككل. إن ملاحظات مزروعي هذه يمكن التعبير عنها من وجهة نظر شخص من الهامش بالدارجي السوداني البسيط (بإنهم في الوسط والشمال عملوا إستقلالهم وعملوا أحزابهم وتنظيماتهم ودبروا إقتصادهم وبيعملوا إنقلاباتهم ويعملوا إنتفاضاتهم .. كلو منهم وفيهم .. شايلنها موزة بي فوق .. بعيد بعيد من باقي الناس) ورغم أن الأمر واضح كما قلنا من قبل إلى أن ورقة مزروعي قوبلت بكثير من الجدل والنكران الساري حتى الآن ، ورغم إنه إذا كان قد تم جلب كبش من المرعى ولازال يلوك حزمة برسيم بين فكيه ويسيل المخاط من خطمه لكان قد أبدى هذه الملحوظات دون تحفظ. الأمر لم يكن ليحتاج لأحد أبرز المفكرين المعاصرين مثل مزروعي رحمة الله عليه.
لقد تابع الجميع مؤتمرات الحركة الشعبية والجبهة الثورية مؤخراً ، ورغم ما إعترى حركات وتحالفات المقاومة المسلحة من إنشقاقات وأحداث مريرة آخرها ما جرى في الحركة الشعبية وقبلها في الجبهة الثورية إلا أن الملاحظ أن هناك خطاباً جديداً أخذ يبرز على السطح ، ومن المعروف أن خطاب تيار الحلو حتى يبرز إلى السطح كان ثمنه إزاحة الطاقم القديم من قيادة الحركة ففضلاً عن المطالبة بحق تقرير المصير فقد أشار الحلو صراحة إلى أن الجاك سوف لن يرضى (بتشليع) منزله في إشارة واضحة لعدم جدية المعارضة الشمالية خصوصاً التقليدية منها ، إلا أن الجديد كان التحول في خطاب جبريل في الجلسة الإفتتاحية لمؤتمر الجبهة الثورية في باريس في الثاني عشر من إكتوبر حيث وجه لأول مرة إنتقادات واضحة وصريحة للمعارضة السودانية ، كما لا يخفى على البعض الأصوات التي بدأت تتعالى بنبرة جديدة في الشرق ، أما عبد الواحد فموقفه معروف وقد دفع بسببه ثمناً غالياً تمثل في العزلة المضروبة عليه الآن والتي كلفته غالياً في مقاومته الضروس للحفاظ على مواقعه في جبل مرة.
بالنسبة لقوى دارفور رغم أنها لم يتردد عنها ما يشي بإحتمالية مطالبتها بحق تقرير المصير حتى الآن ربما لظروف خاصة بالتركيبة الديموغرافية لدرافور إلا أنها يجب أن تحسم أمرها وأن لا تتردد في المطالبة بهذا الحق بجدية ومن الأفضل لها أن توحد من صفوفها وأن تستغل مبادئ الشقاق التي بدأت تظهر بين المركز وقوى الرعاة الرحل بالتحالف معها والتسامي فوق الجراح المؤلمة حيث أن هذه الجراح كان سببها والمخطط الرئيسي لها المركز ، وقوى الرحل نفسها الآن يتم ضربها ببعضها البعض تطبيقاً لنفس النظرية القديمة والتي نستميح القراء عذراً بتسميتها بإسمها الحقيقي الذي يتردد في المجالس الخاصة (أضرب العب بالعب) والتي تثبت كفائتها وجدارتها بالتكرار في كل مرة ، حيث تم تطبيقها بضرب الجنوبي بالجنوبي والنوباوي بالنوباوي والبقاري والفلاتي وتم ضرب دارفور وقلبها رأساً على عقب في فترة وجيزة بنفس مكوناتها ، وإستراتيجية ضرب العب بالعب تكون نتائجها دائماً أكثر كارثية من أي إستراتيجية أخرى ، ولا زال العبيد يتضاربون! إن مطالبة قوى دارفور بجدية لتقرير المصير وربما شرق السودان سيشكل كابوساً أسوأ بكثير للمركز من حق تقرير مصير جبال النوبة.
بالنسبة لقوى الهامش فإن فوائد المطالبة بتقرير المصير يعني عدم إعطاء شيك على بياض لقوى المركز ولهذا يجب الجدية في المطالبة به وإدراجه بوضوح وقوة في الأجندة النضالية والتفاوضية الأمر الذي سوف يسحب البساط تماماً من تحت المركز ويشكل ضغطاً هائلاً على بقية القوى السياسية الشمالية لتغير من إستراتيجياتها وتكتيكاتها ، فإذا لم يتم تفتيت المركز بالنضال فإن أي حلول تفاوضية في حالة إدراج تقرير المصير في التسويات لقوى الهامش ستكون نهايتها في حالة عدم جدية الحكومة في التنفيذ وتكرير سلبية المعارضة بما فيها قطاع الشمال في فترة إتفاقية السلام قبل إنفصال الجنوب ، هي فسخ العقد الإجتماعي الحالي وفض (اللمة) التي تسمى السودان بغض النظر عن العواقب لجميع الأطراف بما فيها المركز فلا يوجد شيء بلا ثمن. وإلا فإن الدوشكا والقرنوف والثنائي والرباعي .. سيسبحون بحمد الحرب في الهامش لأجل غير مسمى حتى لو كان ذلك تسبيح الشيطان ولكن حتماً سيصل هذا التسبيح في يوم ما لمحراب المركز.
سيكون من العيب مغادرة محطة تتحدث عن آلام الهامش وما يجره هذا من آلام للسودان عموما دون التطرق للسيد الصادق المهدي رغم إن مشاكل السودان أكبر بكثير من الصادق المهدي إلا إنه كان ولازال الراعي المباشر للآلام التي نتذوقها الآن. إن بذور شجرة الإنقاذ التي تنشر ظلال الفساد والقذارة في جميع نواحي ما يسمى السودان الآن قد تم بذرها بعناية في الستينات من القرن الماضي وأمضت مراهقة سعيدة في أواخر عهد نميري إلا أنها بلغت الشباب ووجدت الرعاية المسئولة التي أعدتها لمستقبلها الزاهي في الإجرام والإنحطاط البشري في الديموقراطية الثالثة التي كان على رأسها سيد صادق ، كما إن زراعة بذور إنفصال الجنوب كانت على يده بخضوعه لإبتزاز الجبهة القومية الإسلامية في ما يخص قوانين سبتمبر (أو بالأحرى إقتناعه بها ، فلا يخفى على الكثيرين أن الصادق أخ مسلم متخفي) وفي مراوغته في توقيع إتفاق سلام ما لم تكن المبادرة خارجة من عبائته وفضلها كاملاً له مما فوت على البلاد فرص ثمينة للسلام والإستقرار وساهم في ذلك كرهه الغريب لدكتور جون قرنق. بل وثبت تردده المريب في أواخر أيام وساعات عهده في مقاومة إنقلاب الإنقاذ رغم إنه أصبح مكشوفاً تقريباً. إن تفسير أن الصادق قد سلم الحكم قد يبدو فطيراً ولكن الأحرى أنه قد تم إنتزاعه منه بسهولة بسبب شخصيته الشهيرة بالتردد والتخاذل وعدم إطاقته للشدائد وعريكته اللينة عندما تكون المخاطر مباشرة عليه. وفي ما بعد يجزم البعض من المؤمنين بنظرية المؤامرة بأنه قد دخل في صفقات مع الإنقاذ بما أن مرجعيتهم الآيدلوجية واحدة ليقدم خدمات لها في تفتيت قوى المعارضة ، فاللصادق المهدي قدرات هائلة على التفتيت فهو قادر على تفتيت أي إجماع حتى في بيت للنمل ، وقد برهن على ذلك منذ بواكير حياته السياسية بما لا يسع المجال لذكره هنا ، إلا أن خدماته للإنقاذ بدأت منذ التجمع الوطني الديموقراطي ولم تتوقف عند الجبهة الثورية مروراً بالحركة الشعبية نفسها ، فالصدع الأخير في الحركة هو صنيعة الصادق بإمتياز!! لقد كان ملحوظاً منذ البداية – وهو الأمر الذي كان مثار قلق للكثيرين – أن الصادق المهدي قد إخترق القيادي الكبير بالحركة ياسر عرمان وسرعان ما تبعه مالك عقار ليقع في حبائل الصادق هو الآخر وكان واضحاً أن ذلك بإيعاز وتأثير من عرمان وهو الأمر الذي كان من تبعاته إزاحتهما من قيادة الحركة بطريقة للأمانة لم تكن سارة لقطاع كبير حتى من المعارضين لهم نسبة لتاريخهم الطويل في النضال ونسبة للصورة التي كانت مرسومة لدي الكثيرين عن الحركة من حيث تماسك القيادة. لقد قالها السيد الصادق بصراحة من قبل (البشير جلدنا وما بنجر فيه الشوك) تفتكروا حيجر الشوك دة وين يعني؟! وما يجب التفكير فيه جدياً هو محاولة دعم العناصر المستنيرة في حزبه وعزله وأن تمارس معه نفس اللعبة التي ظل يمارسها تجاه قوى الهامش. النقطة الثانية فإن ما لا يعيه البعض بأن التنظيم الذي يتزعمه السيد الصادق المهدي – حزب الأمة القومي – لعب دوراً كبيراً في الحفاظ على التوازن للنظام الإجتماعي السوداني بتجيير قوى البدو الرحل لصالح المركز أو ضمان حيادهم على الأقل ، وهذا أخطر دور لعبه تنظيم سياسي سوداني في الحفاظ على النظام الإجتماعي للدولة منذ دخول الإحتلال الثنائي وحتى الآن وهذا ساعد على أن يحكم الإنجليز البلد وهم محمولون على أكف الراحة ثم من بعدهم النخب التي ورثت عنهم الحكم ، وهذا التوازن أخذت الإنقاذ تمزقه بكل غباء بل وأحياناً بكثير من التطاول على السيد الصادق المهدي والذي يجب أن يتم عمل تمثال له من البرونز (الذهب حرام) يتم وضعه في أعلى نقطة في السودان القديم.
خلاصة القول إن مأزق قوى المعارضة الشمالية في أنها إما أن تكون صادقة تجاه الآخرين أو أنها ستجد نفسها منجرة لقوى الهامش وستفقد زمام المبادرة تماماً وستصبح لاهي قادرة على إحتواء حركة الهامش ولا هي قادرة على فعل شيء تجاه المركز أو أن عليها أن تنضم صراحة للمركز وهكذا يكون قد تم عملياً فرز الكيمان أو أنها سوف لن تجد مكان تعارض فيه بطريقتها المفضلة إن جاز التعبير تحت أقدامها.
إن الذي يأخذ وقفة وينظر للوضع من بعيد سوف يبدو له الوضع كأن النظام والمعارضة الشمالية يتشايلان بالتعبير السوداني ، أي أن الحكومة تحمل وجه القباحة بينما المعارضة تشايلها بأن تخفف من هذا الوجه بينما النظام واحد! وهذه النقطة قد تكون مبهمة للبعض وواضحة جداً للبعض الآخر! النظام هو المجتمع! فهذه القوى الشمالية لا نستطيع أن نقول أنها لا تعارض فرغم إنها تبدوا كخيال مآتة ولكنها أيضاً لها معارضات جادة للحكومة وليس للنظام ، ولهذا فإن هذه القوى المعارضة بمختلف أشكالها تعي جيداً في خصيصة نفسها بأن مصلحتها الإستراتيجية واحدة مع الحكومة ولهذا فهي لا تقبل بأن تزول الحكومة دون أن يكون هناك ضمانات بأن يؤول لها الأمر بطريقة ليس فيها هشاشة تمكنها من الحفاظ على النظام الإجتماعي القائم مع إدخال بعض التعديلات والإصلاحات ، وإلا فلتبقى الحكومة حتى إشعارٍ آخر كحامٍ مؤلم لهم ، ففي النهاية فإن معارضتهم الحقيقية للحكومة قد كانت من باب أن هذه الحكومة ولد طائش من أبنائهم سيودي بهم كلهم للتهلكة بتهوره ، ولهذا فإذا كان لابد من التهلكة في جميع الأحوال فلتبقى هذه الحكومة لعلها على الأقل تطيل من عمر النظام قليلاً ، بما أن الحكومة لم تحرمهم من كل شيء ولا زالوا يتمتعون بالكثير من أقصى يمينهم إلى أقصى يسارهم فهذه تبدوا لهم صفقة معقولة. من المعلوم تماماً بأن هذا التحليل بغيض ، ولكن عندما يكون الوضع بغيضاً لايمكن للتحليل أن يكون حلواً ، وسنظل نكرر بأن هذا لايعني بأن المجتمع شيطاني أو أن أفراده ولدوا بسمات وراثية تآمرية ولكن كل ما في الأمر بأننا ككائنات إجتماعية (حيوانات يعني) فإن لنا آليات لا شعورية لحماية مجتمعاتنا كوظيفة أحيائية بحتة وهذا ليس عيباً ولكن العيب في أن هذه الآليات قد تطورت كثيراً لتخرجنا من طور (الحيوانات) هذا ، إلا أن عقلنا الجمعي اللاشعوري لمجتمعنا السوداني هنا لا زال بعيييييييداً! في التخلف ولا يصدق أن هناك إختراعاً غير الحنطور يسمى السيارة يمكن أن يوصله إلى حيث يريد بطريقة أكثر راحة وسرعة ، فلا هو يريد أن ينزل من الحنطور ليمتطي السيارة رغم أن الحمار نفسه قد مات ولا هو يريد أن يسير حتى بقدميه.

كوكو موسى
kuku.musa.abuasha@gmail.com

مقالات ذات صلة