مقالات وآراء

قاسم بدري وعقلية الفكي التي تحكمنا

عثمان نواي

ان جيل قاسم بدري المسمى بجيل الرواد في عدة مجالات وطبقة قاسم بدري النخبوية المسماة المستنيرة تتكشف الان إمام الجميع بلونها الحقيقي. ان الدعاوى المتصلة بالتقدمية وتجاوز التقاليد والمفاهيم المتحررة العقلانية والعلمية تنهار ليس فقط امام فيديوهات ضرب الرجل للطالبات بل تنهار بشكل أكبر امام تصريحاته التي أثبتت ان لهذه النخب وهذه المؤسسات عدة وجوه. وجه يتم إظهاره إلى الخارج والأجانب ووجه آخر يتم إظهاره داخل الحوش، وهو الوجه الحقيقي.

ان تصريحات قاسم بدري لا تعبر فقط عن العنجهية والتسلط ولكنها تحمل داخلها الجانب الآخر الأكثر اظلاما وهو حالة التعالي التام على المحاسبة والاحساس بالوجود فوق النقد والقانون حتى. ان هذه النخب التي إدارات السودان من جامعاته إلى حكوماته جميعا تحمل داخلها هذا الشعور بالسلطة المطلقة والاختيار الإلهي. فمعظم نخبة السودان المركزية الذكورية الاسلاموية العروبية ترى نفسها كائنات مقدسة تحمل مفاتيح العلم والخلاص. إنها نفسية الفكي التي تسيطر على هذه النخب التي تطالب الآخرين بالإيمان المطلق بصحة ما تقوم به واتباعها على عمي ودون مساءلة.

فقاسم بدري لا يبدو أنه يدير جامعة بل يدير طريقة صوفية فيها عدد من المريدين يتبعونه على عمي. فهو بابا قاسم بالنسبة للطالبات وهن مجرد اتباع لشيخ الطريقة والمعلمات واعضاء وعضوات هيئة التدريس الصامتين على ممارسات الرجل ليسوا سوى الحواريين. لذلك من حق الرجل الذي يرى في نفسه هذه المكانه وله هؤلاء الاتباع المغيبين ذهنيا وعقليا أن يقول ( انا بعمل العايزو وما في زول يقول لي عينك في رأسك). هذه هي عقلية وذهنية الفكي التي لم يخرج منها ابدا نخب السودان وهذه الأجيال وللأسف انوبعض الأجيال الجديدة تسير على الطريق بذات المفاهيم وتظل أسيرة التبعية العمياء لهؤلاء الشيوخ بكل توجهاتهم. فلا فرق بين شيخ الترابي وشيخ موسى هلال وشيخ قاسم بدري وسيدي الميرغني والإمام الصادق والقيادات التاريخية للأحزاب اليسارية، كلهم الشيوخ الفقرا أصحاب السلطات المطلقة الذين يقودون مؤسسات المجتمع السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. انهم الذين لا يستطيعون تحمل فكرة المحاسبية ولا فكرة التنازل عن السلطة سلميا لآخرين أصغر سنا ولا يحتملون النقد الموضوعي ولا يحتملون التطور أو التغيير اي كان ولو كان من داخل بيوتهم. انهم النخب التي هزمت وتظل تهزم بناء دولة سودانية وطنية مبنية على أسس علمية وعقلانية ومساواة بين المواطنين.

ان قاسم بدري ليس سوى احد الشيوخ الذين هزمتهم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لكنه فقط مثال على بنية وعي النخبة القائدة لهذا البلد التعيس الذي ابتلى بهؤلاء قيادة له. بل إن الأمر يذهب بعيدا إلى محاولة فهم لماذا انهزمت نخبة الاستقلال الاولي إلى الصوفية وسلمتها التجربة السياسية الحزبية الأولى في البلاد و وقعت في أحضان الطائفية التي تسوق الناس كالماشية إلى صناديق الاقتراع دون بناء اي وعي سياسي. وهذا الموقف أيضا يفسر لماذا يحكمنا البشير والكيزان لربع قرن، فقط لأنهم هم أنفسهم لديهم شيوخ طريقتهم الذين تحالفوا سرا وعلنا مع كل شيوخ الطرق والعشائر والأحزاب والقبائل والمؤسسات الأخرى في البلد وذلك للحفاظ على نظام الشيوخ والاتباع الذي يحكم السودان. فالنظام العميق والدولة العميقة التي تتم حمايتها في السودان هي نظام ودولة الشيوخ والاتباع اي كانت توجهاتهم أو شعاراتهم، يسار ويمين اخوان مسلمين وسلفيين ودواعش، انها عقلية الفكي التي تحكمنا منذ بداية الدولة السودانية.

القلم لم يزيل البلم كما توقع أهلنا الحكماء، بل القلم والكمبيوتر وشهادات الدكتوراة والقاب البروفيسرات أصبحت مجرد تسميات محدثة لنفس الشيوخ والفقرا. فقاسم بدري ليس وحده الذي لا يحاسب، فالبشير لا يحاسب على جرائمه وقبله نميري وعبود لم يحاسبوا والصادق المهدي لم يحاسب ولم يحاسب الأزهري أيضا على قولته تحرير لا تعمير. في السودان لا يحاسب الطبيب الذي يقتل الناس باخطائه ثم يبرر بالدين كما فعل قاسم بدري الذي قال القرآن يقول واضربوهن، كذلك للطبيب الذي يقتل يقول أمر الله شيلوا جنازتكم. المعلم الذي يغتصب الأطفال وشيخ الخلوة الذي يغتصب الصبيان أيضا لا يحاسبوا، ضباط الشرطة الذين قتلوا المتظاهرين لم يحاسبوا وقادة الجيش الذين أمروا بقصف قرى جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق هم أيضا لم يحاسبوا ومن قبلهم الذين قتلوا ملايين الجنوبيين واحتسبوا شهداء هم أيضا لم يحاسبوا.

ان هذا البلد الذي تظل نخبته فوق الحساب تعامل الجميع تحتها بعقلية وذهنية الفكي العارف بالله المعصوم من الخطأ، من المبكر بل من المترف جدا الحديث فيها عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان والعقلية الذكورية، انها عقلية القطيع التي تقود البلد عبر النظام العميق الذي يحافظ على الشعب في حالة جهل وتغييب ذهني كامل حتى يستمر الشيوخ والفقرا يتناوبون الكراسي في المعارضة أو في الحكم. فعمليات الافقار والتجهيل والنهب والفساد والقتل والحروب الأهلية كلها آليات هذه الدولة العميقة التي تحافظ من خلالها هذه النخب على سيطرتها المطلقة وتحافظ على أن تبقى وضعية الشيوخ فوق المحاسبة وان يظل الشعب شيبا وشابات وشبان مأسورين لهذا التغييب العقلي. فالقهر المستمر يولد هذا الاعتماد المستمر على الغيب وعلى أصحاب الرؤى المقدسة أملا في الخلاص. لذلك يستمر النخب السودانية بمختلف مواقعهم من الجامعات إلى الحكومات والأحزاب في في ممارسة القهر والسلطة الأبوية القامعة لحرية التفكير والرأي. لا فرق في استخدام هذه الآليات بين يسار أو يمين أو تقدميين أو رجعيين الكل في السودان في مركز النخب القيادية يغيب الحرية في المشاركة في اتخاذ القرار ويعتمد على انعدام الشفافية في كل عمليات اتخاذ القرار وإدارة المؤسسات سياسية كانت ثقافية أو أكاديمية.

لذلك فإن قاسم بدري لم يقم سوى بما يقوم به كل يوم وهذا باعترافه، وهو لن يغير ولن يتغير وهو يعلم أن ليس هناك من لديه الجرأة على تغييره أو محاسبته. أليس هذا هو نموذج مثالي لكل الانتهاكات والظلم والفساد والاحتكار للسلطة في السودان؟ من البشير إلى حميدتي إلى قاسم بدري إلى الأئمة والسادة والقيادات التاريخية الجميع يرى نفسه ويفسر مواقفه تماما كما فعل قاسم بدري. ان هذا هو التحدي الرئيس امام الشباب السوداني، وهو التحرر من عقلية الفكي أو الفقيه التي تحكمنا والتي تسوقنا كشعب نحو محرقة أخلاقية وسياسية واقتصادية لن تبقى ولن تذر. لذلك يجب تحطيم هذه المعابد والتحرر من حالة القهر النفسي حتي يتم التحرر الكامل من القمع الذي تمارسه السلطات الأبوية التي ترى نفسها فوق المحاسبة. ولن تكون المعركة لتغيير النظام بعيدة عن معركة محاسبة قاسم بدري وأمثاله من النخب الفقرا الذين يرون أنفسهم فوق المحاسبة.
nawayosman@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock