مقالات وآراء

عودة الحرس القديم

لم تشهد جميع الانظمة السياسية السودانية المتعاقبة , تخبطاً في مسيرتها عبر تاريخها الطويل , مثلما شهد نظام الانقاذ من تقلبات وتراجعات في المواقف بين كل ليلة وضحاها , فبعد سبع سنوات من ايداع نظام الانقاذ لمدير مخابراته السجن بتهمة السعي لتقويض النظام وتدبير الانقلاب عليه , يفاجأ الشعب السوداني المسكين بتعيين ذات مدير المخابرات الأسبق , في موقعه الجديد كرئيس لجهاز الامن و المخابرات السوداني , مما يؤكد على ان عملية ابعاده التي تمت سابقاً واتهامه بالمحاولة الانقلابية تلك , ما كانت سوى مؤامرة داخلية بين رموز النظام , في صراعهم المحتدم حول النفوذ و السلطة , والا لما تمت عملية اطلاق سراحه بتلك السهولة الواضحة , و جميعكم يعلم انعدام روح التسامح و مبدأ العفو عند المقدرة , لدى هؤلاء الانقاذيون الذين ازهقوا ارواح ثمانية وعشرون ضابطاً , عندما حاولوا القيام بانقلاب فاشل كان قد استهدف نظامهم الانقاذي الانقلابي , فقضوا عليهم رمياً بالرصاص في واحد من ايام شهر رمضان , لقد بدأت بوادر عودة رأس النظام المفاجئة الى حرسه القديم من الاسلاميين , توقيتاً مع الزيارة الشهيرة له الى روسيا نهاية العام المنصرم , بعدها اخذت توجهات النظام في التحول الجذري من محور الى محور آخر , نتيجة لما خلفته زيارة مساعد وزير الخارجية الامريكي جون سوليفان للسودان , من أثر نفسي سالب على قائد سفينة الانقاذ , ولما اعتراه من قنوط ويأس بسبب نتائج مشروع تطبيع العلاقات السودانية الامريكية , الذي قاده وزير الخارجية البروف ابراهيم غندور وطاقمه الدبلوماسي , والتي جائت مخرجاته بعكس ما كان يأمله رأس النظام الانقاذي , خاصةً عندما علم ان الانفراج السياسي و الاقتصادي للبلاد مقرون بمغادرته للكرسي , الامر الذي اعتبره خيانة للعهد من الحرس الجديد , ذلك العهد الذي يجب على كل من ادى القسم امامه , وزيراً كان او مديراً ان يؤمِّن على استمراره في تمسكه باسباب السلطة والسلطان , وهكذا يكون الوطن معتقل ورهينة بيد الرئيس , في مشهد سينمائي تقليدي لافلام الكاوبوي , عندما يمسك راعي البقر المُطارد من قبل اعدائه , برقبة اعز شخص لاولئك الذين يريدون قتله , ويضع فوهة مسدسه على عنق الرهينة , ولسان حال هذا الرجل المطارد يقول اما انا او الطوفان.
مما لاشك فيه ان مذكرة التوقيف الصادرة من محكمة الجنايات الدولية بحق الرئيس , هي حجر العثرة و العقبة الكؤود في طريق تنحيه و عدم ترشحه لاي فترة رئاسية قادمة , وكذلك تعتبر المعيق الاكبر لفك رهن الوطن و انطلاقته نحو تحقيق السلام المستدام و التنمية المرجوة , وهذا ما جنته جماعة الاخوان المسلمين و الجبهة الاسلامية القومية على سعادة العميد الركن وعلى الوطن , اذ كان بمقدوره ان يكون جالساً اليوم تحت مظلة فرندته او راكوبته يقضي خريف العمر , مداعباً لاحفاده بعيداً عن رهق السلطة و هموم الملاحقات الجنائية , لو لم يقم بتلبية رغبة هذه الجماعة الاخوانية ومشاركتها في القضاء على الحكومة الشرعية آنذاك , لكنها جماعة الهوس الديني التي آلت على نفسها الا وان تزج بالجميع في أتون معركة خاسرة , اضاعت فيها الوطن و المواطن , في سبيل تحقيق تطلعات مهووسة لرموز جماعتها , فالطريق الآن اصبح احادي الاتجاه وما على الوطنيين الساعين للاصلاح و التغيير , الا وان يسيروا فيه وهو الطريق الاوحد المؤدي الى ازالة النظام , اما هذه المسوحات التي اريد بها تجميل وجه المنظومة الانقاذية , فقد فات اوانها و لن تجدي نفعاً لان اس البلاء متجذر , و مستوطن في عمق الدولة وهيكلها العظمي , فالازمة الاقتصادية و الانهيار الكامل للنظام المالي لن يصلحه تغيير الوجوه , و قضايا وتحديات الحرب و السلام لن تحل او تنجز الا بنظام بديل , يكون مبرأً من عقدة التكبيل و التصفيد و الارتهان.
من زاوية اخرى ان اجراءات عودة الحرس القديم من الاسلاميين يزيد من تأكيدات المراقبين , بان نظام الانقاذ وباعتباره نظاماً شمولياً و ثيوقراطياً لا يجب على القوى السياسية ان تتماهى معه , في اطروحاته وتسويقه لمشاريع الوفاق الوطني الفضفاضة , فالانفراد بالقرار السيادي منذ صبيحة انقلاب ثورة الانقاذ التي فشلت في انقاذ نفسها , ما زال في قبضة الدائرة الضيقة للاسلاميين ويظهر ذلك جلياً في لقاء بورتسودان و افتتاح مصنع الملح , فهم يديرون ازماتهم بحذر بالغ التعقيد يلحظه المتابع لعمليات التحول والتبدل الكبيرة , التي حدثت عبر محطات سير قاطرتهم المعطوبة هذه , فترى اللاعبين الاساسيين في هذه المسيرة هم فقط من هذه الدائرة الضيقة , ولا عزاء لموسى محمد احمد ولا لعبد الرحمن الصادق و لا لحفيد الميرغني , فهذا الجيش العرمرم من المساعدين و المستشارين لا يهش ولا ينش , بل اصبح خصماً على رصيد الوطنيين من ابناء هذه البلاد , ومع الاسف الشديد قد منح هؤلاء المساعدون قائد سفينة الانقاذ , الحجة في ان يلجم اصوات الكثيرين من البسطاء و الانطباعيين من ابناء هذا الشعب المقهور , بالظهور الاعلامي لهما وهما بمعيته كابناء لسيدي الطائفتين الكبيرتين , هذه الصبغة المظهرية و الصورية ما كان لها ان تكون لو لا بعد رمزي هاتين الطائفتين عن قضايا الوطن , وانحسار طموحاتهما السياسية في الحرص على الظهور في اضواء القصر الرئاسي , نفس القصر الذي اخرجهم منه ذات الشخص الذي يتوددون لتقديم مساعدتهم و خدماتهم الجليلة اليه عبر ابنيهما المساعدين الشهيرين , حتى يساهموا في اخفاء معالم الجريمة التي ارتكبت بحق الوطن في صبيحة يوم الجمعة 30 يونيو من ذلك العام.
بعودة الحرس القديم يكون جميع البيض الفاسد قد تجمع في سلة واحدة , مما سوف يسهل عملية الكنس و التخلص من هذه الاعباء الانقاذية التي اثقلت كاهل الانسان السوداني , فهذا البركان الذي بدأ يثور مطلع هذه السنة سوف لن تخمد حممه و سيواصل الغليان , وانها لثورة من اجل الكرامة و الحرية و الخبز , ولن تقنع الناس لعبة سحب الكراسي التي انتجتها عبقرية جماعة الاسلام السياسي هذه الايام , فالتحدي يكمن في الوضع الراهن وما شابه من ظروف اقتصادية , وازمات دبلوماسية وسياسية و أمنية اقليمية ودولية قاسية , زج النظام بنفسه فيها و عجز عن ابتكار الحلول العملية للخروج منها , فهذه الظروف البائسة و الحاضرة نتاج سلسلة من الاخطاء و الاخفاقات التي سار في دربها نظام الانقاذ طيلة هذه السنين العجاف , دون اشراك ابناء الوطن مشاركة حقيقية وفعلية في بناء بلادهم , فجائت النتيجة كما نراها متجلية في بدايات النهاية الحتمية للنظام التي نعيش ارهاصاتها هذا النهار , فلن يصلح العطار ما افسده الدهر , و الانقاذ اضحت وامست كعجوز شمطاء تدراكها الكبر و هشاشة العظام و ضعف البصر و انعدام حيلة البدن , فهي تعيش شيخوخة قصيرة سوف تعقبها النهاية الطبيعية لكل من شاخ وترهل , وما على الشعب الجائع الا ان يعمل واجبه من تجهيزات التكفين و حفر القبر و دفنها , و ما علينا الا ان نقرأ عليها فاتحة الكتاب , ونقول انا لله وانا اليه راجعون , وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال و الاكرام , فقد صدق احسن القائلين سبحانه جل جلاله.

اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock