مقالات وآراء

ظاهرة حميدتي..

اسماعيل عبد الله

دُهِش الناس من وصول رجل مدني يعمل بالتجارة الى رتبة الفريق بالقوات المسلحة السودانية، يقود تلك القوات ذائعة الصيت، الموكول اليها مهام مكافحة التمرد بغربي السودان، مما جعل الكثيرين من ضباط القوات المسلحة السابقين والحاضرين، يمتعضون من هذا الترقي السريع والكبير لتاجر الابل الذي ضل طريقه الى الجندية، متجاهلين فشل المؤسسة العسكرية السودانية، في التصدي لكل التمردات التي انفجرت في البلاد، تلك الحركات الثورية المطالبة بازالة التهميش والظلم المؤسس، الواقع على مجتمعاتها ردحاً من الزمان، لقد كانت الانظمة المركزية في حربها ضد حركات التمرد الجنوبية، قد اعتمدت ايضاً على استخدام مواطنين من ابناء جنوب السودان كمضاد لتلك التمردات، وفي الغالب الاعم يكون دافع هؤلاء المواطنون للوقوف امام مد الحركات المطلبية لاخوانهم الذين تربطهم بهم ذات الجغرافيا، هو الصراع الداخلي و البيني، وهذا الصراع قد يتمثل في التنافس حول الموارد المحلية بين الرعاة و المزارعين، او بين العرقيات المتباينة ، في السعي لاحتكار الاراضي و توسعة النفوذ القبلي، فمثل هذا الغبن يجعل البعض يركلون بارجلهم طوباوية مباديء الوطنيين الذين يحلمون بتطبيق الأسس الدستورية، و مباديء الديمقراطية، والتعاطي الايجابي مع قضايا الصراع المدني والسياسي، في مجتمع ما تزال غالبيته العظمى لم تخرج من الوعاء القبلي والاثني، فيعملون على تحقيق اهدافهم القصيرة الاجل في الحصول على مكاسب قبائلية في اطار اقاليمهم و مناطقهم.
إنّ تأسيس وبناء الدولة الوطنية، ليس بالأمر السهل بالنظر الى الحالة السودانية، وما اضمحلال المؤسسة العسكرية واختزالها في مجموعات قبائلية، الا دليل على فشل الانظمة السياسية المتعاقبة في عملية هذا البناء، وهذا الخلل هو خلل كلي وليس جزئي، بمعنى انه ليس محصوراً في مؤسسة الجيش وحدها، بل طال حتى المؤسسات المدنية الاخرى، من اجهزة تنفيذية و تشريعية ورقابية، فحتمية اطلالة ظاهرة حميدتي على مسرح الحياة العسكرية في البلاد شيء بديهي الحدوث، كنتيجة طبيعية لسوء الممارسات الادراية لمجموعة من الافندية، ترك لهم المستعمر مسئولية ادارة دولة كبيرة ومتنوعة في مكونها ومكوناتها مثل السودان، وهذا القصور المؤسسي جائت تفاصيله في الكتاب الاسود، الذي حوى احصائات وبيانات مأخوذة من دولاب الدولة نفسها، قام باعدادها مجموعة من الكتاب المحسوبين على حزب المؤتمر الشعبي، ابان المفاصلة الشهيرة بين الانقاذيين، وانه ليس من الضروري النظر الى دوافع الذين أتوا بتلك الارقام التي لم تكذب، بل الاكثر ضرورة هو عدم اهمال تلك الحقائق برميها في سلة المهملات، لان اهلنا دائماً ما يضربون لنا مثلاً شعبياً شائعاً، عندما نهاب قسوة وعثاء طريق الحق المفضي الى مصلحتنا، فيقولون لنا (اسمع النصح الذي يبكيك ولا تسمع المزاح الذي يضحكك)، فتلك الدراسة الاحصائية الدقيقة، كانت وما تزال هي البلسم الشافي لأزمة الوطن، فلو أن القائمين على امر ادارة البلاد اخذوها بساعد الجد، واستوعبوها في معالجة هذا الداء العضال، الذي اقعد أمتنا السودانية عن النهوض، لكنا اليوم نرفل في نعمة من الخير و الرفاه الاقتصادي.
فاضت مواعين الاسافير السودانية و منابرها الحوارية، بالموضوعات التهكمية عن حميدتي، في حين ان التهكم هذا يجب ان يكون موجهاً لمن يحتمون خلف ظهر الرجل، اذ ان الحضور الدائم للرجل في قضايا الصراع المسلح في السودان، ليس له فيه من خيار، فهو وغيره قد قذفت بهم رياح العاصفة التي ضربت سفينة المنظومة الحاكمة، فاذا لم يكن حميدتي في هذا الموقع، فسيكون احمد اوحاج احمد آخر، فلماذا استمراء طعن ظل الفيل ؟، لماذا لا ننظر الى الازمة من زواياها العديدة ؟، خاصةً زاوية اختلال ميزان العدالة في الدولة السودانية، مساحات شاسعة وواسعة من الارض المكتسية بالمحاصيل الزراعية المتنوعة، و الغابات المثمرة، والثروات الحيوانية المعتمدة على المراعي الطبيعية، اضافة لاكتناز باطن ذات الارض بالذهب و الفضة، و اليورانيوم و النحاس و البترول، كل هذا الغنى ودولتنا تتسول وتمد يدها لدى دول لم تكن الاكثر منا غنىً، ولكن رعى قيادتها ابناؤها الوطنيون الذين انحازوا لخدمة شعبهم ، وسهروا الليالي من اجل ان يتبوئوا صدر المحافل الدولية، لقد ضربت الانانية باطنابها في نفوس ابناء السودان الحالمين بغدٍ افضل، فالحسد و العنصرية و تغليب كفة جهة على أُخرى وقبيلة على قبيلة، اصبح هو الديدن و المسبار الذي يوصل الناس الى اعالي المراتب في زمان الانقاذ.
عندما اطالع الكاريكاتيرات و الموضوعات الساخرة حول ظاهرة حميدتي، في مواقع التواصل الاجتماعي السودانية، أستشعر مدى ضعف المعارضة السودانية المنوط بها تغيير الحال الى احسنه، فانحسار دور الرجل المنافح و المكافح من اجل التغيير، في تأليف النكتة والطرفة المفضية الى المؤانسة، لن يخدم قضية الوطن، لانه بذلك ومن حيث لا يدري يعمل على إطالة عمر المنظومة المتجبرة والقابضة على رقاب الناس، بتحويل و تحوير القضايا الجادة الى مجرد موضوعات ورسومات انصرافية، يتنفس عبرها المقهور و يخدر بها نفسه حتى ينام هذه الليلة ليستقبل صباح اليوم التالي وما تزال المأساة هي المأساة، هكذا قضينا ثلاثون عاماً الا قليلاً، نحوِّل مأساتنا الى قصص للتسلية، نعالج بها جراحاتنا الغائرة باسلوب هزلي، ينبيء عن صعفنا و قلة حيلتنا وهواننا على الناس.
هذه الظاهرة التي نحن بصددها لا تمثل سوى انعكاس للازمة المستعصية، التي لازمت الوطن منذ خروج البريطانيين منه، فعلى الحادبين على مستقبل وحدة ورفاهية بلادنا، ان ينتقلوا من مربع الأنس و المؤانسة، الى حلبة الصراع الحقيقي، لانه ومن المؤكد ان مشجع لعبة كرة القدم يقضي سنى عمره في هذه المهنة, ولن يستطيع ارضاء شغفه بحب المستديرة الا من خلال مشاهدة اقدام الاخرين، ونحن ما زلنا جالسين على مدرجات المشاهدين، حاملين الوية العلم التي منحتنا لها مؤسسات التعليم العالي، من اجازات علمية في علوم السياسة والاستراتيجيات العسكرية، مع اكتفائنا بمشاهدة اللاعب ميسي، أقصد حميدتي، وهو يصول ويجول يمنة ويسرة، ونحن نلوح له بهذه (الكرتونة) مشجعين تارة و مثبطين تارات أُخَرْ، عاجزين وغير قادرين على فعل شيء، سوى ابداعنا في فنون الكاريكاتور برسم هذا اللاعب..

ismeel1@hotmail.com

مقالات ذات صلة