مقالات وآراء

صراع هوية و ليس صراع مصالح

ربما قادت العولمة والإنفجار المعلوماتي و التحولات الإقتصادية الدول لمرحلة الخروج من التحالفات و الانتماءات الضيقة, الي كلٍ عالمي موحد و معياري ذو خاصية يميزها الإنفتاح علي الكل, و المصالح المشتركة, و المصير المشترك, و الاخوة الإنسانية و جميع السرديات الكبيرة. و بشكل متناقض ظاهريا paradoxically هو ذات التطور التاريخي الذي أفضي للمرحلة الحالية من عمر العالم “مرحلة الانغلاق علي الذات”. كان هذا جزء من حتمية التطور و كنتيجة للصراعات التي صاحبت العولمة و إفرازاتها, ومنها التغريب alienation ,إقتصاديا أو إجتماعيا أو سياسيا, الذي عانته الشعوب في فترات العولمة لإبتعادها عن جذر تكوينها, و بنيتها الإجتماعية و الإقتصادية و السياسة المحلية, التي تمثل مصدر إلهام سلطتها و شرعيتها و قوانينها و مصالحها, فهي بني مستمدة من أعراف تلك المجتمعات و خبراتها الشعبية المتراكمة. و هي علي ذلك ،و علي الرغم من تناقضها مع ذاتها المتمثل في بعض الفروقات ما بين أجيال هذه المجتمعات و تمركز السلطة أبويا patriarchy عند جيل الشيوخ و تراتبيتها hierarchy، تمثل هذه الجماعات و تسعي لتوفير نموذج أساسه التراضي consent. عوضا عن الإمتثال للمعيار الكلي الذي تشكل وفق ثقافة جديدة ناشئة و غير ضاربة بشكل مؤسس في عمق المجتماعات التقليدية و غير محاذ لخصوصيتها .وهو بالتالي يؤدي لتغريبها. لو أخذنا كمثال قوانين الإدارة الأهلية في دارفور, كانت منبثقة عن إرث تنظيمي شعبي متفق عليه. و قائم علي تحقيق حياة يومية للقبائل المختلفة وفق منظومات قانونية و إجتماعية. إن الإتجاه نحو القومية nationalism و الإنسلاخ عن العولمة globalization لا يمثل نهاية المطاف فحالما يتحقق عمليا لدولة ما هذا الانسلاخ, كما حدث لبريطانيا, ستسعي المكونات الاجتماعية و الوحدات السياسية, اي الاقاليم التابعة لها في السعي نحو مزيد من الانفصال, بما يحقق لها المزيد من الخصوصية. و ما حدث في اوروبا كان من الأولي أن يحدث في إفريقيا, باعتبار انها مجتمعات تقليدية. غير ان الواقع هو أن افريقيا ما زالت تتجه نحو الاقليمية و القارية و العولمة, و لم يحدث التحول نحو العولمة بعد بشكل جذري وكامل, حيث مازال هناك إرتداد استدراكي للإرث يستقي خلاله القادة الافارقة من حين لآخر من التقليدي من محتواة او فنياته. لخلق موائمة مع الواقع التقليدي. و هو ما جعل التحول نحو المعياري العالمي بطيئا و سبب ململة وسط النخب. و هي ذات الوضعية التي مكنت بعض الحكومات الإفريقية من الاستفادة من الفجوة والارتباك و عدم التجانس و من المرحلة التاريخية التحولية غير الناضجة ، مكنتها من البقاء و الإستمرار في سياسات لا تمت للمصلحة العامة بصلة و لا تستمد شرعيتها من المواطن. و ظهرت معضلة أساسية متمثلة في مفهوم المواطنة و تعريف المواطنة و تحديد حقوقها المعيارية في ظل واقع يسمح بالتلاعب و التشويش. هذا علي خلاف ما حدث في أوروبا, و قاد حلم المواطنة إفريقا و القارات الاخري للالتفاف حول النموذج المعياري الاوروبي “المثالي”. غير ان واقع تحقق النموذج المعياري علي الأرض في اوروبا كان مفبركا, وإعتمد في إستمراره علي سياسة إرضاء consent قائمة علي إستخدام استراتيجيات تضليل و إلهاء manipulation علي مستوي عالي. و تحكم في العقول mind control مقابل أساليب القمع في المجتمعات الإفريقية, و الهندسة النفسية و الإجتماعية social and psychological engineering و الذي أظهر عورة الانظمة الإستبداية بالقارة الإفريقية بوضوح قاد الشعوب الإفريقية للبحث عن أوطان حاضنة. يحدث هذا في ذات التاريخ, في ظل تناقضات و صراعات شبيهة و تغييب للمواطن في اوروبا. مما أظهر تيارات مناوئة جديدة و أكاديميين و نقاد تناولوا المعيايير المزدوجة و التناقضات في سياسات العالم الأول. و هي بذرة الوعي التي أدت لنشوء تيارات موحدة في جميع أنحاء العالم ذات موقف فاعل و وعي مستنير تجاه ما يحدث في العالم. و هي ثمرة من ثمار العولمة و توفر المعلومات و سهولة إنتقالها و تداولها. و هي في تقديري تمثل معول داعم للتغيير و مسئول عن التنوير و كشف الحقائق و ليس الجلوس علي كراسي وثيرة و العمل من وراء زجاج يفصل ما بينهم و الشعوب. فنموذج الإنسان العالمي المتصالح و الواعي و المطلع علي ماوراء الظاهر و المضطلع بدوره في التغيير يمثل حلقة الوصل مابين العوالم و الثقافات. و هذا إسترسال في سياق يمكن العودة له لاحقا في موضوع منفصل. و بالعودة للمحور الخاص بأروبا, لا يمكن فصل ما حدث اليوم من توجه نحو القومية الذي قادته المملكة المتحدة من واقع بنية الوعي الجمعي الأوروبي, المنطلقة من ثقافة الفردية individualism التي تميز الشحصية الأوروبية. و هي بحكم تكوينها النفسي اقرب للإنغلاق علي الذات و التمركز حولها عن الشخصية الافريقية الغارقة في الاجتماعي و الجمعية. إن ما سيحدث و حدث و سيستمر في الحدوث في أروبا من توجهات نحو الخصوصية القومية ثم المحلية ثم الي وحدات إثنية أو سياسية أو اجتماعية أخري, هو نتيجة حتمية لافرازات التغريب و التضليل و الالهاء. لم يعد السؤال سؤال مصلحة طالما إنتبهت الشعوب لغياب مصالحها . و هي ردة معقولة. حيث أضحت الشعوب الأوروبية تبحث عن ذاتها و تسعي لتحقيق هويتها. في ظل إغراق هذه الهوية في معايير ملزمة دوليا و غير متجانسة مع مصالحها. فلا غرابة في أن الجيل الذي دعم صوت الإنفصال في إستفتاء بريطانيا هو الجيل المحافظ. حينما نقارن ذلك بالنموذج الافريقي المتمثل, مثلا, في إنفصال جنوب السودان و سرديات الإنفصال المتصلة بجبال النوبة و النيل الازرق و دارفور والنوبيين في شمال السودان, فإننا نتحدث عن حالة صراع و إحتدام لصراع هوية ناشئ عن محاولة فرض نموذج دولة قومية بدون مراعاة لتمثيل الهويات الثقافية و الإثنية و السياسية المختلفة, المكونة لحيز الدولة الجغرافي و التاريخي. و هو ما قاد لمقاومة شرسة, أدت لإنقسامات لوحدات جغرافية و إثنية تسمح بوجود تمثيل للهويات التي عانت الاقصاء والتغريب لفترة طويلة. غير أن هذا الانقسام ,كما حدث بالفعل في نموذج إنفصال جنوب السودان,لم يكن نهائي فبذات المنطلق ستسعي وحدات إثنية و ثقافية و سياسية اخري ,غير ممثلة, للانفصال او ستسعي للحصول علي حقوقها في التمثيل المعياري. و هذا يفسر نشوء و إعادة إنتاج الصراع في جنوب السودان و شماله معا. الشاهد أن المرحلة التاريخية للصراعات العالمية مصدرها البحث عن الهوية لغيابها بسبب القمع و الاقصاء او الالهاء و التضليل. كنت دائما ما انظر لنموذج الهجرة العكسية من و الي القارات المختلفة كنموذج واعد للاندماج و للدبلوماسية الشعبية. و لخدمة مصالح الشعوب بدون وسطاء يستفيدون من خلال صناعة فائض قيمة معنوي و مادي لخدمة النخب الحاكمة و المؤسسات الرأسمالية التي تحكم العالم. و هو ذات النموذج الذي يسمح للشعوب بأن تجد ذاتها الإنساني وعلي قدم المساواة. و تبعد شبح وجود شعوب حاضنة و شعوب هاربة لاوطان جديدة. فلكل أرض ميزة إستثنائية ما يجعل منها حاضنة للإنسان و صديقة له. فعلي الشعوب السعي لتغيير النخب الحاكمة التي لا تمثل مصالحها و الإتحاد و التعاون علي فعل ذلك. و لكل شعب مزايا جديرة بتعرض الآخر عليها. فهنالك إرث إنساني هو حق يتوجب أن يكون مشاعا للجميع. تحتاج الشعوب أن تقدم نفسها لنفسها بنفسها. و أن تختار قادتها وفق رؤية تمكنها من ذلك. و لا غلو في أن حرية الشعوب في تقرير مصيرها مبدأ لا يمكن العبث به .
نجدة منصور

najdamansour@gmail.com

مقالات ذات صلة

تعليق واحد