مقالات وآراء

رحلة الطُغاة من القُصُور الى الجُحُور

شهد عالمنا الافريقي والشرق اوسطي في السنوات القليلة الماضية، انهياراً لاعتى الانظمة التي تزعمها حكام طواغيت لم يخلق مثلهم في البلاد، نكلوا بشعوبهم و اذاقوهم شتى صنوف التعذيب، حتى ان هذه الشعوب وصلت الى حالة من الركون والاستسلام، بحيث جعلت هؤلاء الطواغيت يسعون الى تلميع ابنائهم لكي يورّثُوهم الحكم، دون ادنى مراعاة لحقوق هذه الشعوب في ان تختار من يتولى امرها بنفسها، انها حالة الفناء في الذات، و اختزال الدولة ومواردها وشعبها في ذاتية الرئيس او الحاكم، فتخضع مؤسسات الدولة جميعها لمؤشر سبابة الطاغية، دون فصل بين السلطات الثلاث، فالتشريع و التنفيذ و القضاء كله يأتمر بأمر السيد الحاكم، ومع مرور السنين و الايام يصبح كل شيء يدور حول فلك السلطان، وكل من تسول له نفسه الدوران عكس هذا المحور، سوف تحل عليه لعنة الفرعون، فيصبح من المغضوب عليهم، ويتهدده الفقر والفاقة والمرض والجهل، لان الدواء و الغذاء و الكساء كله في مخازن ومستودعات الرأس الكبيرة، ومفاتيح الرخاء والهناء بيد هذه الرأس وحدها ولا احد غيرها، فتغشى هذه الشعوب حالة من مشاعر الاحباط واليأس، والاعتقاد الزائف بنظرية ان الحاكم هو ظل الله في الارض، وان ما يفعله بهم هو نتاج ما كسبت ايديهم، وليس بسبب سوء الادارة و الفساد و الحكم غير الراشد، فتتلبسهم هذه الشعوذات، فيصبحوا أهون للحاكم من خيط العنكبوت، فيشدهم سيدهم الاكبر هذا بأي اتجاه يريده، حتى يصل هو ذات نفسه الى الاعتقاد و الجزم، بأنه هو فعلاً وحقيقةً ظل الاله على ارض هؤلاء البؤساء.
ان كانت هنالك ثمة نعمة ثمينة ونفيسة وغالية، وضعها الخالق العظيم الله جلّ جلاله في بني الانسان، لكانت هي الضمير، هذا الواخز الاليم، الذي زرعه الله في القديس كذا والعربيد على حد سواء، وجميعكم تذكرون ذلك الحديث الذي ادلى به عبد الله الضعيف والذليل الى ربه عمر بن حسن، عندما ساقه ذلك الضمير الوخّاز لان يعترف، في لحظة رهبة وضعف وحاجة الى أمان الله، حين قال : (لقد قتلنا اهل دارفور لاتفه الاسباب)، هنا تتجلى عظمة هذه المنحة الالهية، عندما ينكسر الزعيم و العظيم و القائد، ويقر ويستفرغ حمله الثقيل من الذنوب والآثام، واما هذا الضمير حينما ينطلق من النفس المقهورة و المنتهكة تكون له قوة دفع جبَّارة، تقلب المعايير و القوانين و المفاهيم رأساً على عقب، تماماً مثلما هب الشعب المصري في لحظة صحوة جماعية لضميره الانساني، فنزع هيبة الموت عن نفسه، وواجه آلة الطاغية محمد حسني مبارك بكل جرأة وثبات، و ما بين مصدق ومكذب اذا بمبارك يُحمل على فراش المرض الابيض، ويؤتَى به الى قفص الاتهام، والهوان يتملكه روحاً وجسداً، فيجيب على السؤال التقليدي لقاضي المحكمة، ذلك السؤال الذي يطرحه القاضي على أي متهم بصرف النظر عن منصبه السابق، أكان رئيساً او وزيراً او خفيراً، يا ألله، انها ثوانٍ تتجلى فيها رحمة الله بعباده المظلومين، من يصدق ان الفرعون بجلالة قدره وبعنفوان صوته الخطابي الأجش، يرد على سؤال القاضي ويقول:(افندم) ليؤكد وجوده في حضرة قصر العدالة!!!.
لقد تعرض احد الكتاب الاوروبيين في احدى سردياته عن معمر القذافي، ان في فترة حكم العقيد لليبيا، تعتبر اي محاولة لانتقاده من أياً كان من الليبيين، ضرباً من ضروب الانتحار، وهنالك الكثير من الروايات المتداولة بين ابناء ليبيا عن بطش العقيد وجبروته، تفوق حدود الخيال و التصور، لكن كل هذه السطوة و تلك القوة لم تشفع له، عندما صحى الضمير الجمعي للأمة الليبية، فكان مشهداً مثيراً للشفقة، عندما تذلل العقيد الجهبذ لشباب في سن احفاده لان يتركوه ليحيا، انه الموت ، فوبيا الموت وعشق الحياة هما ما دفعتا كل طغاة العالم لقتل شعوبهم بدم بارد، تلك هي اللحظة الوحيدة التي يندم فيها الظلمة حيث لا ينفع الندم، تماماً مثلما قال بن علي (الآن فهمتكم)، حيث لا يفيد الفهم، و لا يجدي الاستيعاب في زمن الغضب الشعبي العارم، فالشعوب اذا غضبت ثارت واذا ثارت انتصرت، ولن توقفها جيوش الطغاة ولا خيول السدنة و المتخاذلين .
شاهدنا قبل ايام جثة الشاويش علي عبد الله صالح، ملفوفة ببطانية حمراء، مضرجة بالدماء و بجزء من المخ ومادة النخاع الشوكي، بشاعة تلك الصورة تقابلها صورٌ اُخرى أنيقة و جذّابة، تعرضها شاشات التلفاز في تعريفٍ سريع لمسيرته السياسية، وصراعه المحموم مع السلطة والنفوذ، ففي بلادنا الافريقية و العربية كل العسكر يطمحون و يطمعون ويصلون الى السلطة، ابتداءً من رتبة الشاويش وانتهاءً الى رتبة الفريق، فالمرحوم علي بن عبد الله بن صالح كان شاويشاً في الجيش اليمني، ويا ليته عاش ومات على تلك المهنة والمرتبة الشريفة، حتى لا يكسر قلب بلقيس التي لم تُشبع حنانها الابوي منه، لتنتحب وتبكيه وهي في ريعان شبابها، لكنه الطغيان الذي كما تعرضنا لتعريفه في مفتتح هذا الموضوع، بانه الفناء في الذات، فالطاغية لا شيء يساوي عنده قيمة الكرسي، والدكتاتور يستخدم فلذة كبده ليبقى ويستمر في الحفاظ على هذه اللعنة المسماة بالسلطة، و يتضح ذلك جلياً في قتال و استبسال ذلك الشاب الثلاثيني، الذي شهد العالم على شجاعته وعدم مهابته للموت وهو يدافع عن ملك ابيه، انه المعتصم ابن الطاغية معمر القذافي، بينما ظل الوالد متوارياً خلف حماية كاملة من طاقمه العسكري، يتنقل به جنده وعسكره من مدينة الى أخرى، حرصاً على سلامته التي لم تدم طويلاً، فكانت النهاية المحتملة لكل من طغى وتجبر وسام ابناء شعبه سوء العذاب، وما اشد عذاب من اختبأ في الجحور، من بعد ان عاش حياة الملوك مختالاً ومتجولاً بين القصور، لكنها غضبة الشارع المقهور.
انّ الحالة اليمنية شبيهة الى حد كبير بالحالة السودانية، ووجه الشبه هذا يكمن في تزايد عدد المليشيات المسلحة، المؤسسة على خلفيات قبلية وعرقية، اضافة الى ذلك، وجود جيوش متمردة على سلطة الحكم المركزي، وهذه الجيوش تعيش في حالة من البيات الشتوي، بمعنى انها يمكن ان تنشط في اي وقت من الاوقات، وكل هذه الجيوش لديها احساس عميق بالغبن تجاه المركز الحكومي، مع تفشي ظاهرة العنف في المجتمعات السودانية بمعدلات كبيرة ومتزايدة يوماً بعد آخر، وظهور بوادر لحروب المدن، ابتداءً من حادثة ضرب مطار الفاشر، من قبل جيش حركة تحرير السودان، و انتهاءً بدخول قوات حركة العدل و المساواة السودانية امدرمان، اما الامر الآخر والذي يعتبر الخطر الداهم على الامن والسلم المجتمعيين، هو ان الجميع اصبح متدرباً على حمل واستخدام السلاح، اي انه تمت عسكرة المجتمع، فقد تنجح الحكومة في حرمان الناس من امتلاك السلاح ما استطاعت الى ذلك سبيلاً، لكنها لن تقدر على ان تنتزع الخبرة العسكرية و السلوك العدواني و الدوافع الانتقامية و الغبن السياسي، من عقول المواطنين.
ولتلافي حدوث السيناريو اليمني في ربوع سوداننا الحبيب، على النظام الحاكم ان يعمل على تفعيل المؤسسات العسكرية، لبناء جيش وطني حقيقي غير ملائشي، و الابتعاد عن صبغ القوات المسلحة و الشرطية والاجهزة الامنية بالصبغة الجهوية، فالجيوش العظيمة تمثل الضمانة الوحيدة لبقاء وحدة الامم والشعوب، فمن بعد ان تتم عملية اعادة ترتيب بيت هذه المؤسسة الوطنية، على النظام ان يهيء وبصدق وجدية لمرحلة انتقالية محددة الزمن والتاريخ، و البدء في تحديد ملامح هذه المرحلة الانتقالية، التي لابد ان تكون مدتها ليست باقل من ست سنوات، يتم فيها تشكيل حكومة انتقالية، تراعى فيها التعددية السياسية و الثقافية و الديموغرافية للبلاد، وعلى المعارضة (المدنية والمسلحة) ان تتهيئ لهذه المرحلة، مع وجوب تغليبها لخيار التداول السلمي للسلطة على خيار العمل العسكري والمسلح، وبهذا الاطار العام لهذا الطرح يمكن ان نجنب بلادنا سوء المنقلب و التفتت و التقسيم، ولنعلم جميعنا، انه لا روسيا ولا امريكا، يمكنهما ان يحفظا ويحافظا لنا على وحدة بلادنا، ان لم تنبع هذه الوحدة من سلوكنا وممارستنا السياسية الوطنية الخالصة، حاكمين ومعارضين.

اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock