مقالات وآراء

ذكرى رحيل الحوت

اسماعيل عبد الله

منذ انطلاقته الاولى وهو شاب يافع , كان التواضع و البساطة من السمات البارزة في شخصيته , فالتواضع صفة الانبياء وهو كلمة السر للعبور الى قلوب الناس , ومتى ما تجسدت هذه الخصيصة في قلب احدهم , حتى تجده يحظى بقبول منقطع النظير من مجتمع الانسانية العريض , والامثلة كثيرة في مجتمعي الفن والفكر المحليين والعالميين , فمحلياً كان الاستاذ المجدد مصطفى سيد احمد الذي قلب الطاولة على هواة التقليد القديم , فلمع نجمه منذ السبعينيات الى منتصف تسعينيات القرن الماضي , وفي ذات التوقيت الشتوي من عام 1996 ميلادي رحل عن دنيانا الفانية , مخلداً مكتبة ضخمة من الاعمال الفريدة و الجديدة و النادرة , ومن مصادفات القدر ان مصطفى ومحمود رحلا عن الدنيا في ذات اليوم البارد من ذات الشتاء من شهر يناير , و كما تعلمون ان للايام و الشهور دلالاتها الروحية و النفسية و التاريخية , ففي نفس السياق نجد تطابق هذه المناسبة الانسانية الحزينة لرحيل محمود عبد العزيز , مع التوقيت الزمني لسنوية استشهاد الاستاذ محمود محمد طه , الذي رحل في اليوم الذي تلى يوم رحيل الحوت , مع اختلاف السنين والقرون و العقود , فهذا الشهر اليانيري يرتبط بذكريات بالغة الاسف و الحزن في وجدان الشعوب السودانية , التي تغلب عليها الروح المتصوفة الشفافة من اقاصى شرقها الى غربها البعيد , وعالمياً كانت هنالك شخصيتان تعتبران مثالاً للتواضع و الشموخ الانساني , لا يستطيع المؤرخون تجاوزهما , وهما بوب مارلي والمهاتما غاندي , ومثالهما كمثال محمود الحوت والاستاذ محمود محمد طه في مجتمعنا السوداني , فمن منكم لم يسمع ويشاهد بوب مارلي ؟ الذي نحت اسمه بقلم من الالماس , على ازياء وملابس شعوب العالم قاطبة , ومن منا لم يطلع على سيرة المهاتما غاندي؟ , الذي اذهل قومه حينما تم اطلاق النار عليه , وهو ما يزال في لحظاته الاخيرة لمفارقة الحياة , فنطق بعبارة حكيمة تجسدت فيها كل معاني الاخلاص للانسانية والحب و السلام , فقد قال غاندي عن قاتله وهو يحتضر : انا اتحمل جريرة ما اقدم عليه من جرم ذلك لانني لم استطع ان الحق به لالقنه قيمة الحب ومعناه ..
محمود عبد العزيز علمنا كيف نحب على طريقته , و لقننا معانيه الشاملة والواسعة , المتجاوزة لحدود الاشخاص و جغرافيا المكان و الزمان , فمن منكم ايها السودانيون لا يحب محمود ؟؟ من شرقكم الى غربكم و من شمالكم الى جنوبكم ؟؟ لن يستطع احد منكم الا ان يقول : شهدنا لمحمود بانه غنى لمدينة جوبا الجنوبية , و دندن للتويا الكردفانية كما ابدع في اداء درة الحقيبة (قائد الاسطول) , اي شمول اكبر و اكثر من هذا ؟ , لقد كان الحوت حالة جميلة وبهيجة مرت بخاطرنا في عجالة و اختفت , كلمحة حسناء خرجت من خدرها فاقتنص المعجبون بها لحظة طرف غالية , ثم ما لبثت ان توارت خجلاً وحياءً داخل خيمتها , فعمر الرائعين قصير , و مليء بالامتاع والروعة و الحسن والجمال , فرحيل الحوت المفاجيء يجسده مقطع من رائعة ابو السيد (الحزن النبيل) في نص : (ما اصلو حال الدنيا تسرق منية في لحظة عشم) , فابن عبد العزيز كان عزيزاً في نفسه و كان أمنية غالية وعملة نادرة , فقدناه في وقت كنا فيه اكثر حاجة لمن هو على شاكلته حتى يضمد جراحاتنا الغائرة , وقد مارس محمود هذا الدور التطبيبي والانساني معنا زماناً , فكانت (ماتشيلي هم) بمثابة العزاء الوحيد لنا في رثاء حال الام و الحبيبة و الابنة , في صراعها العنيد مع صروف هذا الزمن اللئيم وهذا العصر الغيهب , و من اعماله (انشاء الله في ستين) ذلك الاداء المتمرد على واقع الحال المأساوي , الذي عاصره شيب وشباب الشعب السوداني , لقد كان هذا الشاب ابلغ مثال للانسان الثائر و المتمرد على حال ابناء جيله الذي لا يسر , فالحوت يعتبر ايقونة من ايقونات الثورة الاجتماعية و الثقافية السودانية الخالصة التي ننشدها جميعاً , وما قدمه يفوق مجهودات كثير من ابواق الساسة من المنافقين و المتاجرين باحلام الناس , فالثورة الحقيقية في الواقع هي تجسيد للمعاني الانسانية لتصبح افعالاً تمشي على الارض , بربكم خبروني ماهي المنظمة الانسانية التي استطاعت تمجيد شعار المعاقين مثلما فعل الحوت , لقد كانت رمزية الحرف (إكس) باللغة الانجليزية المُشكّل لتقاطع عصي المعاقين , يعبر عن انتصار هذه الشريحة المستضعفة في سوداننا الحبيب , لقد شاهدت محمود وهو يعتذر عن المواصلة في اداء اغنياته في احدى المناسبات العامة , بسبب تدخل العسكري كسّار الجبور , ومحاولته إيقاف المد الجماهيري العريض الذي يكن عشقاً وهياماً منقطع النظير للحوت , حدث ذلك عندما اكتسحت هذه الحشود العملاقة كل المتاريس في سبيل الوصول الى محبوب الجماهير , فتلك كانت واحدة من لحظات صدق محمود الانسان وليس الفنان , مع من عشقه واحبه من ابناء وطنه المقهورين بسياسة بعض الغرباء عن طينة هذا الوطن.
اجدني دائم التوقف عند المعاني و المفردات المسبوكة , في رائعة القيصر مصطفى سيد احمد (ايها الراحل في الليل وحيدا) , لملامستها للظروف التي احاطت بفقداننا للحوت , وهي من اشعار الاستاذ عبد الرحيم ابو ذكرى , وتحديداً في جزئية : (غسلتني بالثلوج وبإشراق المروج) , وحضور الشتاء و الثلج و البرد وشهر يناير في هذا العمل المدهش , فموسم الشتاء اصبح ميقاتاً لرحيل النادرين من ابناء بلادي , فلماذا اختار هؤلاء الرائعون هذا الموسم الشتوي للرحيل ؟؟ , فيا محمود لماذا ترحل ضائعاً منفرداً ؟ , وبواكير الخريف في موعد معنا لكي تعود , فلماذا اخترت الرحيل في الليل وحيداً في ذلك الشتاء القارس ؟ , ولم جعلت سكوتنا رابضاً خلف البيوت الخشبية ؟ , مخفياً حيرته في الشجر وفي غروب الانهر وانحسار البصر , لماذا تلوح لنا ساعة انصرافنا ؟. الم تكن تعلم ان بواكير الخريف سوف تثب على اشرعتنا المنفعلة , ولن تدع لنا رؤية شمس فراديسك على اروقتنا المنعزلة ؟؟ , فمتى تحضننا شمسك الندية؟؟ , التي ما حضنتنا في الزمان الاول , ولا في الزمان الغائب المرتحل , فيا صديقنا انتظرنا , فنحن ما زلنا نعاني آلآم الرحيل في الليل و وحشته , في اقاصى الدهاليز وفي العتامير النائيات , وفي موانيء البحار البعيدة و تحت حفيف اجنحة الطائرات , بل وحتى في اعالي سماوات الطيور النازحة.
فالوداع يا نشوة روحنا بعدما ضاع الهوى تحت ادراج رياح كل هذه السنين المريرة , فجميعنا قد انتابه احساس عميق بانها كانت النهاية , لكنك في ذلك الاوان لم تستشعر هذه النهاية , لان المريدون لم يدعوك تتلمس الطريق وحدك , بل ساروا معك خطوة بخطوة في درب الأسى , فشكوا مأساتهم ومأساتك لذلك النجم المسائي الآيل للأفول , وركنوا لإحتضان الهم والضياع , ومهما يكون فذكراك باقية ولن تهون , يا منبع الإخلاص و يا نور العيون.

ismeel1@hotmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock