مقالات وآراء

داؤود بولاد – خليل إبراهيم – موسى هلال

اسماعيل عبد الله

ثلاثتهم خدموا الاتقاذ و انشقوا عنها , ظلمهم ذووا قرباهم ظلما شديداً وقاسياً , أقسى من وقع الحسام المهند , خدموا النظام بعقيدة وطنية صادقة , لكنهم كانوا في الميدان الخطأ , كانوا في ميدان ثلة من السودانيين لا يقيمون للوطن وزناً , ولا يعيرون للوطنية بالاً , يضربون في ارض السودان شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً نهباً للمال و بحثاً عن زينة الحياة الدنيا , في خيانة واضحة لشعارهم المقدس (لا لدنيا قد عملنا) , ديدنهم البشاعة وسوء المعاملة مع ابنائهم الخارجين عن طوعهم , فمنذ مجيء الانقاذ رأيناها كيف تعسفت في لجم واسكات اصوات معارضيها , بدءاً بالمناضل الشهيد الدكتور علي فضل , وانتهاءً بآخر طالب جامعي يقتل و يرمى بجثته في مكب للنفايات بوسط عاصمة البلاد , لكن انتقامها من ذوي قرباها كان هو الابشع و الاكثر ضراوة وقسوة و تشفياً , تماماً كما حدث للشهيد علي البشير , الذي لم تراعي آلة الانقاذ البراءة التي كانت تشع من عيون اطفاله , فاطلقت عليه رصاصة الموت الزؤام في وضح النهار , وامام عائلته الصغيرة , كانت صدمة حارقة للكبد اصابت احدى طفلاته بحالة من الذهول و الصمت لمدة تجاوزت الاعوام فيما بعد تلك الجريمة البشعة , التي لا تشبه اخلاق ابناء هذا الوطن الجميل , فالبطش و التنكيل و التدجين اصبح منهاج اهل سفينة الانقاذ التي تتلاطمها الامواج من كل صوب.
قام داؤود يحي بولاد بثورة ضد اخوته الذين لم ينصفوه في داخل اروقة التنظيم الاخواني , فاستعان بقرنق في سبيل انجاح مشروعه الثوري , بعد ان سأله قرنق عن سبب لفظه لاخوته في الدين والعقيدة , فكان رد بولاد لقرنق انه تيقن من ان رابطة الدم كانت اقوى من رابطة الدين فيما بين اخوته قادة المشروع الاخواني , جن جنون البطانة الانقاذية فحشدت ابناء المراحيل الذين يحملون حنقاً قبلياً تجاه إثنية بولاد , فشتتت قوات بولاد حتى وقع اسيراً في يد جيش ومليشيات الانقاذ , التي كانت بقيادة اللواء سمير و ادارة واشراف الطيب سيخة حاكم اقليم دارفور آنذاك , ومن سخريات الاقدار ان الذي امسك و وشى للاجهزة الشرطية و الامنية عن المكان الذي كان يختبيء فيه بولاد , بعد تشتيت قواته , هو احد الافراد من ابناء قبيلة بولاد نفسه , وهذه الكوميديا السوداء تذكرني بالرواية التي سردت الكيفية التي تمت بها عملية القاء القبض على تشي جيفار , ايقونة النضال العالمي , عندما كان مطارداً في سهول وغابات بوليفيا , فاستدل مطاردوه على مكان مخبأه باصبع احد الرعاة الذين كان يقاتل من اجلهم جيفارا , بعدها سئل هذا الراعي لماذا ارشدت اعداء الرجل الى مكانه , فكان رده غاية في السطحية و السذاجة و الجهل والضياع , فقال لهم ان مطاردتكم لهذا الرجل ازعجت اغنامي , و لم تترك لهم مجالاً للرعي . هكذا كان مصير بولاد الذي تمت تصفيته بعد الأسر , في عملية انتهاك صارخة لاعراف وتقاليد الحروب وفقه الجهاد في الشريعة الاسلامية , لكن وكما تبين للجيمع ان اهل الانقاذ الذين يتشدقون بآيات الله هم ابعد خلق الله عن الله .
الدكتور خليل ابراهيم قدم تضحياته ومجاهداته التي لا تخطئها العين الى منظومة الحكم الانقاذي , لكنها لم تشفع له ولا لأهله عندما قال لا لاختلال ميزان العدالة , ضُرب هو الآخر بقسوة اكثر من تلك التي نالها الراحل بولاد , لانه دخل بيت الطاغية نهاراً جهاراً في تحد فاضح للمنظومة الانقاذية , كاسراً هيبتها و تبجحها بانها العين الساهرة على مراقبة حدود مركز الدولة , وكان البشير يعلم علم اليقين , انه اذا كان هنالك رجلاً واحداً في السودان مؤهلاً لازاحته عن كرسي الحكم , لكان ذلك الرجل هو خليل ابراهيم , او كما يحلو لسكان عاصمة البلاد تسميته بعد تلك الغزوة الجريئة والشهيرة بإبراهيم خليل , فبعد تلك الغزوة الامدرمانية لم يغمض للمنظومة الفاسدة جفن , حتى حاكت المؤامرة الاقليمية التي اودت بتصفية الاسد في عرينه , في نواحي قرية ود بنده بكردفان , ومما يؤسف له ايضاً ان نهاية خليل كانت بيد احد افراد قبيلته , تلك النهايات التراجيدية والمتشابهة للمناضلين الذين وهبوا ارواحهم رخيصة من اجل الكرامة الانسانية في جميع بقاع الارض.
الشيخ موسى هلال غادر مغاضباً الى دامرته بمستريحة , بعد ان قنع من خير المنظومة الانقاذية , فرفض الاستمرار في معية هؤلاء الظلمة , وأسس مجلس الصحوة الثوري , ولعل في كلمة (صحوة) اشارة ضمنية لصحوته من غفلته التي فيها استمرأ ان يكون يد الانقاذ الباطشة في دارفور , اذ كان هلال مناوئاً و شاهراً للسلاح في وجه الثوار الذين كانوا يبحثون عن كرامة الانسان الدارفوري , وصل التوتر ذروته بين هلال و المنظومة الانقاذية عندما طرأت على الساحة السياسية تقاطعات المصالح الاقليمية , بين السودان ومصر وليبيا و تشاد و افريقا الوسطى و جنوب السودان واثيوبيا و ارتريا و دول مجلس التعاون الخليجي , فهذه الجغرافيا الشرق اوسطية الملتهمة لجزء من وسط وشرق افريقيا , قرعت فيها نذر واجراس التوتر , و تعرضت لجشع وطموحات القوى العظمى , وبما ان نظام الانقاذ مهدد في وجوده بسبب تورطه وخضوعه للشروط الامريكية , كان لزاماً عليه ان يثبت اهليته في تنفيذ وتطبيق تلك الاستحقاقات الامريكية , والتي من اولى اولوياتها أفراغ السودان من السلاح , ومن الجماعات الارهابية المتطرفة , فبدأت عملية المراوغة مع الشيخ موسى هلال في ماراثون جمع السلاح , واعادة بسط هيبة الدولة , وتم استخدام فقه شد وبسط شعرة معاوية في ادارة هذا الصراع معه , الى ان تحقق للانقاذ ما سعت اليه , وهو احضار هلال سالماً معافىً الى الخرطوم , و ضمان وجوده في قبضة المنظومة الانقاذية بصرف النظر عن كونه اسيراً او سجيناً او مقيماً في منزله مجبراً.
برغم تمرد هلال وتحديه للنظام وسبه وسخطه , وجرحه لنائب الرئيس بأقسى الالفاظ , الا ان النظام كان حريصاً على سلامته , وذلك بسبب سيطرة النزعة العروبية على اجندة اهل الانقاذ , فموسى في نظرهم ابن بلد و من حقه ان يصول ويجول ويقول ما يريد , و اخيراً هم واثقون من انهم سيعيدونه الى حظيرة النظام , وتتضح ملامح هذا التيار العروبي في مغازلة الطيب مصطفى لهلال ايام اعلان الاخير لتمرده , واجتهادات مشائخ الطرق الصوفية في لعب دور الوسيط بين هلال و النظام , اما امثال بولاد وخليل فمساحة التسامح بينهم وبين الانقاذيين منعدمة , وذلك يرجع الى العامل الاثني , الذي هو بمثابة المحرك الاساسي لهذه المنظومة في قضايا السلطة و الثروة في البلاد , اذ ما زالت تستثمر في هذه النزعة العرقية وتعمل على اعادة تدويرها في سبيل الحفاظ على السلطة .
وختاماً لعل للاسماء دلالاتها , فداؤود النبي صاحب المزمار لم يستطع انجاح ثورته بجمع الناس من حوله , ربما لانهم ليسوا اهل موسيقى وطرب , الى ان جائهم من تطابق اسمه مع ابراهيم الخليل , فاوصلهم الى عقر دار الطاغية , فكانت نيران الظلم برداً وسلاماً على اولئك الفتية , الذين حملوا ارواحهم على اكفهم وهم يقتحمون عش الدبور , و اخيراً ما اشبه موسى بموسى , حيث تربى ونشأ في قصر الفرعون , كأحد ابنائه , فكانت نهاية الفرعون بيد موسى , فهل من دلالة معنوية لهذه الاسماء ؟ داؤود و ابراهيم وموسى؟؟..
ismeel1@hotmail.com

مقالات ذات صلة