مقالات وآراء

جنوب السودان و صراع الإمبراطوريات: الفارسية الإيرانية و العربية الاسلامية و العثمانية التركية

بقلم الأستاذ: أتيم قرنق

في الوقتِ الذي تتقاتل و تتناحر قادةُ جمهوريةِ جنُوب السُّودان علي الكراسي و السلطةِ و النفوذ و المال في صراعٍ مريرٍ دامي و حرب مدمرة ليست لها اَي مغذي و إنما يتهتّٓك النسيجُ الاجتماعي و تهدد وحدة الوطن، فان العديد من الاممِ من حولنا تعمل من اجل تقوية وحدتها و ثروتها و لو علي حساب دول غير مدركة لضرورة وحدتها و أهمية السلام و الاستقرار لأراضيها و شعوبها. العالم تحت العولمة يُسحق و يُستغل فيه الدولُ الضعيفة و الفقيرة فتزداد ضعفاً و فقراً و تقوم فيها الصراعات و المنازعات و الحروبات كما الْيَوْمَ في الكثير من دول افريقيا.

الأحداث و التفاعلات و التحركات السياسية الجارية حالياً في منطقة الشرق الأوسط و شمال افريقيا تدفعني للاعتقاد و الاستنتاج ان هنالك صراعٌ مستترٌ بين احفاد إمبراطوريات سادت في أحقاب زمنية متتالية و نشرت المعرفة و الحضارة في المنطقة و تخومها و ما خلفتها تلك الإمبراطوريات من ايجابيات و سلبيات ما زالت اثرُها و بصماتُها و اثارُها ماثلة و باقية ليومنا هذا. قد لا نبتعد عن الحقيقة كثيراً اذا قلنا ان الامبراطورية الفارسيّة تمثلها جمهورية ايران الاسلامية و الامبراطورية العربية الاسلامية تمثلها الْيَوْمَ جامعة الدول العربية بقيادة مصر و ليست السعودية بينما الامبراطورية العثمانية تمثلها جمهورية تركيا (الأردوغانية)؛ و كما نعايش بشكل يومي مظاهر هذا الصراع فمن واجبنا محاولة قراءة الواقع و التأثيرات التي يمكن ان تنعكس و تقع علينا في جنوب السودان. و في ما يلي و في السطور التّالية سوف احاول نقاش هذا الموضوع.

أُوْلِي هذه الإمبراطوريات هي الامبراطورية الفارسية التي تأسست في بلاد الفرس في القرن السادس قبل الميلاد و تمددت و توسعت لتصل الي النيل و أوربا بمعني الهيمنة و السيطرة علي حضارات و ممالك و شعوب متنوعة اللغات و الثقافات من ضمنها العرب و الأتراك. وقد تفاعلت الحضارات و الثقافات و اللغات و المعارف تحت هذه الامبراطورية التي هزمتها الامبراطورية العربية الاسلامية في بدايات ظهورها في القرن السابع الميلادي. كان مركز الامبراطورية في ما هو الْيَوْمَ ايران

الامبراطورية الثانية هي الامبراطورية العربية الاسلامية التي بدأت مع الفتوحات الاسلامية في القرن السابع الميلادي و تمكنت من السيطرة علي ممالك و شعوب عديدة علي غرار ما كانت من الامبراطورية الفارسية قبل الدعوة؛ و كانت من ضمن هذه الشعوب التي خضعت لهذه الامبراطورية الأتراك و الفرس. وصلت نفوذ هذه الامبراطورية غرب النيل في شمال افريقيا و تخوم أوربا الجنوبية الغربية وعبرت نهر السند في الشرق حتي أواسط آسيا و تحتها أيضا تفاعلت العديد من الثقافات و الحضارات و انتشرت و سادت الديانة الاسلامية. اضمحلّت الامبراطورية و انتهت بقيام الامبراطورية العثمانية التركية، و لكن علي مبادئ الاسلام، في القرن الثالث عشر الميلادي. كان مراكز السلطة في الجزيرة العربية (المدينة المنورة) أو ما هو الآن المملكة العربية السعودية و من ثم في دمشق و بغداد و غيرها.

الامبراطورية الثالثة في التسلسل التاريخي هي الامبراطورية العثمانية التركية؛ قامت في القرن الثالث عشر الميلادي كما سلفت الإشارة له و تمددت هي الآخري لتحتل كل الشرق الأوسط و شمال افريقيا و وصلت حتي جنوب السودان و وسط أوربا و تحتها أيضا تفاعلت العديد من الثقافات و الشعوب و انتهت الامبراطورية العثمانية في القرن العشرين عقب الحرب العالمية الأولي لتتكون علي أنقاضها دول الشرق الأوسط الحالية. كان مركز السلطة في ما هو تركيا الْيَوْمَ.

الشعوب التي تسكن اراضي تلك الإمبراطوريات الْيَوْمَ تدين و تعتنق الاسلام كعنصر مشترك في ثقافاتها. الإيرانيون شيعة في حين ان العرب معظمهم سنة و بقيادة مصر و السعودية (سنة/وهابية) و الأتراك سنة و حالياً بقيادة (الأخوان المسلمون) علي رغم من الوحدة الدينية التي تربط شعوب دول هذه الإمبراطوريات فإن علاقاتها ٓتشُّوبُها شائبة عدم تنسيق سياسات و استراتيجيات علي المستويات المختلفة محلية و إقليمية و دولية.

في زماننا هذا، ورثة هذه الإمبراطوريات الثلاث تحاول كل مِنْهَا الهيمنة و السيطرة علي شئون منطقة الشرق الأوسط بشتي الوسائل مما نتجت عنها صراعٌ مستترٌ و البائن هذه الأيام بين الإيرانيين و العرب و الأتراك. الأتراك و العرب مسلمون سنة و يعتبر عنصر وفاقي بينها في حين ان ايران مسلمون شيعة و تقف لوحدها و لكن العلاقات الدبلوماسية الإيرانية و التركية حالياً اكثر تقارباً بينما هنالك تباعد بين السنيين العرب والاتراك. تشترك إيران و غالبية دول الامبراطورية العربية الاسلامية في نظام الحكم الإستبدادي و غياب الديمقراطية و يبدو لي ان تركيا (الاردغانية) تبتعد عن أوربا لينضم الي معسكر الاستبداد و التسلط!

الجانب المهم هنا هو ما هي إمكانيات كل امبراطورية في المنطقة و ما هي الفروقات بينها في شتي المجالات و ما هي الأساليب التي تستخدمها كل منها لتحقيق أغراضها في المنطقة؟ ما هي درجة الوحدة الداخلية و التماسك بين شعوب كل امبراطورية و درجة شفافية الحكم أو رشده أو عدمها؟ ما قدرة ودرجة و تأثير نفوذ كل إمبراطورية علي الأخريين؟ ما درجة التمكن التقني و التكنولوجي؟ اذا قومنا بمقارنة بسيطة لقدرات و تطلعات و اطماع كل امبراطورية فمن الممكن استنتاج ما قد تصلنا في جنوب السودان من تداعيات منافساتها. سنتحدث بصورة مقتضبة عن بعض جوانب هذه القضايا في كل امبراطورية و نحدد اَي من هذه القوي قد تكون مصدر قلق لجمهورية جنوب السودان

اذا بدأنا بأقدم امبراطورية فهي الفارسية و وريثتها هي جمهورية إيران الإسلامية؛ شعبها موحد و تمتلك الشعور القومي الطاغي و الاعتزاز بماضيهم السحيق و يقفون مع قياداتهم من شاه الي الأئمة، في احياء مجدهم الغابر! قوية عسكرياً و تكنولوجياً و اقتصادياً بمقياس دول المنطقة و هي قوة إقليمية مؤثرة و فاعلة ذات نفوذ ديني في دول المنظومة العربية فنظام الحكم في العراق تقوده الشيعة الموالية لإيران و حزب الله في لبنان قوة عسكرية و سياسية و موالية لإيران و كذلك حماس في فلسطين و في مملكة البحرين تشكل الشيعة أغلبية رغم انها ليست هي التي تقود المملكة حالياً و هنالك الحوثيون في اليمن و هم قوة سياسية وعسكرية لا يستهان بها و العديد من الأقليات الشيعية في الدول العربية و جميع هذه القوي الشيعية موالية بصورة مطلقة تدين بولائها لإيران و تعتبر الروابط العربية ثانوية في ترتيب الولاءات! تجتهد إيران علي ان تصير قوة نووية رادعة في المنطقة و الإقليم الشئ الذي تقف ضده بشراسة الامبراطورية الغربية (الرأسمالية) حمايةً دفاعاً لنفوذها لدي دول الامبراطورية العربية الإسلامية. جمهورية إيران الاسلامية هي داعمة قوية و لها اعلام صوت أعلي من بقية المسلمين فيما تختص بقضية فلسطين و هو واحد من اسلاليب التقرب و التأثير علي الجماهير العربية و هو مطية ذكية للتدخل في الشئون العربية! و هذا التأيد للقضية الفلسطينية جلبت لها غضب الغرب. و إيران مستقلة في سياساتها الخارجية.

الامبراطورية الثانية في الترتيب الزمني هي الامبراطورية العربية الاسلامية؛ وارثوها اكثر سكاناً و ثراءاً لكنهم اقل وحدة و تماسكاً كقوة محلية أو إقليمية. تتكون من عدة دول بعضها تدار بانظمة ملكية و بعضها بانظمة جمهورية.إ تتصارع علي زعامة الامبراطورية مصر و السعودية حالياً. متخلفة تقنياً و تكنولوجياً! تعتز شعوبها بماضيها التليد و يبدو لي ان قادة هذه الامبراطورية لا يحلمون بإعادة مجدها و إنما الهدف الاول هو توحيد شعوبها و لذا أُنشئت جامعة الدول العربية ربما كخطوة أولي نحو تكوين نُفوذ مؤثرة في الإقليم و العالم. ليست لديها نفوذاً علي الامبراطورية الفارسية الإيرانية أو العثمانية التركية. تخضع بعض دولها اقتصادياً و سياسياً للإمبراطورية الغربية الرأسمالية.

اما الامبراطورية العثمانية التركية و الأخيرة و التي ورثتها تركيا فإنها موحدة و قوية و ان كانت قضية الأكراد موضع قلق لها و لكن الأكراد هم في حساب رعايا الامبراطورية تاريخياً، فلا مجال لخروجهم من الامبراطورية. متطورة تقنياً و تكنولوجياً و يمتلك اقتصاد حديث بمقاييس الإقليم . طموحاتها لاحياء الامبراطورية هي جزء من سياسات اردوغان (الاخوانية) لها بعض النفوذ السياسية و الاقتصادية و الثقافية علي بعض دول الامبراطورية العربية الاسلامية. تتعلق بأهداب أوربا و لكن يبدو انها رويداً رويداً تبتعد عن المبادئ الأوربية المبنية علي العلمانية الحاضنة لمفاهيم الحكم الرشيد، و الديمقراطية و حقوق الانسان، و تنضم الي معسكر الحكم القمعي السائد في المنطقة و لكنها تتمسك بعضوية حلف الناتو. مستقلة في قراراتها. لها وزن معتبر في الإقليم و جنوب شرق أوربا.

من المقارنة المبسطة أعلاه يمكن اعتبار الامبراطورية الفارسية التي لم يتأثر بها جنوب السُّودان تاريخياً بأن خطرها تتمحور علي العمل للهيمنة و السيطرة علي بعض الدول العربية و تبعيتها لها. عراق و البحرين و اليمن تعمل ايران علي التحكم في شؤون هذه الدول، و لبنان لدرجة ما، من خلال الشيعة. لكن احتمالات التحالف مع نظام الانقاذ الفاسد الفاقد لحلفاء في المنطقة يمكن ان تكون مصدر قلق لنا لان كلا الدولتين ايران و السودان مصنفتين عالماً بأنهما من بين الدول الرعاية للارهاب العالمي.

خطر ايران علينا قد لا يكون ممكناً حالياً لانها تواجه الامبراطورية الغربية الرأسمالية و التي تحاربها و ذلك لمساندة إيران القوية للقضية الفلسطينية اكثر من اصحاب الشأن العرب! الدول الغربية و بقيادة الولايات المتحدة الامريكية تعتبر أمن و استقرار إسرائيل من مسؤولياتها و اَي تهديد و خطر علي وجود اسرائيل يعتبر خطاً احمراً لا يمكن تخطيه: الامبراطورية الغربية وضعت استراتيجية بعيدة المدي لحماية اسرائيل فقد تم تحيد السعودية بتكنولجيا انتاج و تسويق النفط و آليات حماية النظام الحاكم؛ فالسعودية بهذا التحيّد لا تُعتبر كدولةٍ من دول المواجهة لإسرائيل. من الجانب الاخر فان مصر الذي كان رأس الرمح في القضية الفلسطينية قد تم تحيده أيضا من خلال معاهدة أو اتفاق كامديڤيد و مصر بذلك لا يشكل اَي خطورة علي أمن و بقاء اسرائيل. الدول العربية التي كانت ذات اصوات عالية و كٓنزتْ العتاد الحربي و أشهرت عدواتها لإسرائيل كانت مصيرها الزوال و قُتل قادتُها فالعراق و ليبيا شاهدتان علي ذلك و لم تبق من مثل هذه الدول غير ايران وسوريا. سوريا الآن في طريقها للتفتيت. بناء علي ما تقدم فإن ايران تعتبرها الغرب عدوهم طالما هي عدو يريد ازالة اسرائيل من الوجود و سيطول الزمن لوصول خطر ايران الي جنوب السودان متي كان السيناريو الحالي هو السائد في المستقبل المنظور.

من سياق ما تقدم فان الإمبراطورية العربية الاسلامية هي الآخري لا تشكل خطراً علينا كوحدة سياسية أو ككتلة اقتصادية أو قوة عسكرية؛ و لكن مع وجود نظام لا يمتلك أية ذرة من قيم الجوار، فان تحالفات نظام الانقاذ مع بعض الدول العربية متي تحسنت علاقتُها قد تشكل خطراً علي امننا لان الحنين العربي للأندلس و جنوب السودان ستظل يؤرق القادة و لذلك العمل الدؤوب علي جعل أمن جنوب السودان غير مستتب بهدف ان يؤدي ذلك الي فشل الدولة و العودة لأحضان الإمبراطورية العربية الاسلامية!!

من هنا تبقي الامبراطورية العثمانية التركية و هي غير مصنفة من الغرب علي انها عدو للاسرائيل و لذا غير مستهدفة من الامبراطورية الغربية الرأسمالية. و تركيا قَد بدأت تتوغل في افريقيا من خلال أحدي مستعمرتها السابقة السودان. نحن من ناحية حسابات (الاستراتيجية العثمانية) قد لا نشكل أهمية كبيرة و لكن اذا كان السودان هو المطية التي سوف تستغلها الامبراطورية في تطبيق استراتيجيتها في البحر الأحمر و القرن الأفريقي؛ فمقابل ذلك سيطلب نظام الانقاذ من الأتراك المساعدة و المساندة لإخضاع قيادات جنوب السودان للارادة السودانية حتي لا تقيم تحالفات مع قوي لا تطمئن عليها الخرطوم. إذاً واجبنا متابعة الأحداث و هي تتشكل و علينا ان نتحرك في كل الاتجاهات من اجل الا يزج بنا نظام الالانقاذ الفاسد في أتون الصراعات التي تتخمر الان في القرن الأفريقي .

ما تجري الان في الشرق الأوسط بين الأتراك و القطريين و ايرانيين من جانب و السعودية و معظم دول الخليج و مصر في الجانب الاخر هو وضع معقد جداً وَمَا تتشكل الان في شمال افريقيا و القرن الأفريقي من احداث جديرة بالإهتمام. العلاقات المصرية السودانية ليست في أفضل حالاتها فمصر الان تتحالف مع اريتريا و من جانب اخر السودان و اثيوبيا و تركيا متحالفة أين نحن من كل هذه التفاعلات الإقليمية ؟ الحياد قد يَكُون !! و لكن لا بد من دراسة الموقف بصورة جيدة فقد تتحالف معاً الثعالب والكلاب و الذئاب ضد الأُسود الضارية و الدببة المفترسة و لكن بحذر و يقظة شديدتين.

*الاستاذ آتيم قرنق دينق ديكويك
عضو فى برلمان جمهورية جنوب السودان.

مقالات ذات صلة