مقالات وآراء

جريمة اغتيال الدولة السودانية رقم ٤ الكوابح التي اوقفت مسيرة الدولة

د. الهادي عبدالله إدريس ابوضفائر

لقد مرت الدولة السودانية منذ الاستقلال وحتى تاريخ كتابة هذه السطور بفترات تجاوزت الاثنين وستتين عاما منذ أن نالت الدولة استقلالها التي شهدت خلالها مسارات فكرية وسياسية تأرجحت بين حكومات مدنية منتخبة ديمقراطيا وانقلابات عسكرية وحكومات انتقالية، إلا أن بنية المنظومة الفكرية لدى النخب التي تعاقبت على تلك الانظمة لم تتغير وبالتالي ادت الي فشل بزوغ نجم الاستقرار كوظيفة اساسية للدولة وغابت التنمية بكل جوانبها واختلت ثقافة التعايش السلمي واختفى مؤشر السلام من البرمجة العقلية للشعب.

لقد بدا الحلم واعدا بمجرد نيل الدولة استقلالها حيث تبارى الشعراء في نظم القصائد، وكذلك الملحنون والمغنون، وبدأ حلم التغيير يراود الشعب، إلا أن فكرة الدولة لدى النخب الحاكمة كانت أقل من سقف طموح الشعب فلم يكن العدل والمساواة مسطرتها ولا المفاهيم الأساسية للإنسانية بوصلتها، مما آلت الي صراع المركز والاطراف وبدأ مؤشر الدولة يتجه نحو الهاوية، سقطت الحكومة الوطنية وجاء العسكر فأخذوا مشروع الدولة الي سقف أقل انخفاضا، وتوالت بعدها أنظمة ديمقراطية ثم عسكرية. ليصل انخفاض السقف الي مداه عند الإسلاميين، وتحول حلم الدولة الديمقراطية الي دولة الحزب الواحد تم فيها إعادة فقه دار الحرب ودار السلام وتحول الإسلام من دين جامع لغالبية الأمة الي إيديولوجيا ذات عضلات تنفيذية واجندة قبلية تفرق بين الإسلاميين أنفسهم ناهيك عن بقية الشعب.

فكرة الدولة الديمقراطية لم تتحقق، وضاع حلم الشعب في ظل سيطرة المصلحة الشخصية على المصلحة العامة وتقديم مصلحة الحزب على مصلحة الوطن ومصلحة الفرد على الكل. الأحزاب التقليدية لم تتغير لتصبح أحزاب معاصرة، ولا يزال الصراع محتدم بين افراد يحملون أفكارا شمولية غادرها التاريخ ولكنها ما زالت مستقرة في بنية المنظومة الفكرية التي لم تستطيع أن تقيم نظاما عقلانيا يسمح له بإنشاء مجتمعات تصلح أن تعيش في العصر الحالي، مجتمع مكتشف لإسرار الكون ومساهم في إعمار الأرض، وتمتلك رصيدا من الخبرة تسمح للناس بالتعايش السلمي وتعمير الكون وإشاعة الرحمة بين الناس وفقا لمنهج القرآن الكريم (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) بدلا من شريعة الغابة التي لا تعرف التسامح والالفة والانفتاح على الاخر وروح تبادل السلطة سلميا (جبناه بالسلاح والداير يقلعوا يحمل السلاح).

على الرغم من فشل الدولة الديمقراطية وزوالها من المشهد تماما، إلا أننا حتى الآن لم نبحث عن الأسباب العميقة وجذورها التي قادت الي الفشل والقتل والدمار، من أجل التصدي لها، وكما أننا لم نحدد الحد الأدنى من القيم الاساسية التي من خلالها يصبح الفرد وطنيا مصان العرض والدم والمال. وهذا المبدأ يقرره الدين وتقوم عليه المنفعة في الدنيا. لكن كل النخب كانت تفكر باتجاه واحد (من لم يكن معي فهو ضدي) مما افقدنا منطق النظر إلي دائرة المشترك الجامع بيننا، على النقيض كنا بارعون في ما يفرق ويباعد يبننا، أعلنا الاستقلال ولم نكن متقفين، اشعلنا الحرب في الجنوب ونحن متفرقين، عقدنا اتفاقية سلام أدت الي تقسيم البلد ونحن مختلفون، لم نتعظ من تجاربنا، وكذلك أعلنا الحوار الوطني ونحن متشرذمين.

لم نفكر عميقا في فهم الدولة بالرغم من ذهاب المستعر وانتهاء سياسة المناطق المقفولة شكلا، لكنها بقيت حيا في الفكر والممارسة، لم تتحول فكرة الدولة الي وطن يسع الجميع مهما اختلفت اعراق ومعتقدات أبنائه، ابعدنا أهل الجنوب من المشاركة السياسية الفاعلة بحجة أن الدولة اسلامية طالما القائمون على أمرها يطبقون الشريعة الإسلامية ولا ضير أن نستعين بهم في غير الولايات الضرورية، بمعنى تحويلهم الي مواطنين درجة ثانية يقبلون بالوضع قسرا وإلا المقاومة لكي نرسل عبرهم شهدائنا الي الجنة وقتلاهم الي النار، دون أدني تفكير في كيفية استيعاب مواطنين يتقاسمون معنا تراب الوطن، ضحوا بدمائهم من أجل الاستقلال والعيش الكريم ولم نحسب حساب الحد الأدنى كم حجم العنف الذي تمارسه الدولة لتسكت اصوات الذين يطالبون بحق المساواة؟ وكم يكلف الدولة من دماء واشلاء بين إبناء الوطن الواحد؟ وكم حجم الدمار الخراب الفساد الذي يؤول إليه.

عدم الاعتراف بالدولة ذات الهويات المتعددة واختزالها في هوية عربية إسلامية جعلها مناقضة لبقية الهويات الاخري ومناهضة لمبدأ أن الناس مختلفون ولذلك خلقهم ربهم. طالما أن الاختلاف لا يكون على حساب الاخر فالواجب تفعيله بشكل طبيعي بما ينسجم مع واقعنا ومتطلباته، محاولة تحويل كل الناس الي هوية واحدة وطمس الهويات الاخري أدت الي إرباك في تصور وفهم الدولة، أهي قائمة على أساس جغرافي وقاعدة مساواة تسع كل مكوناتها أو دولة نخب تفرق بين المواطنين على أساس الجنس أوالدين أوالقومية أو الاتجاه السياسي أو الخلفية الاجتماعية. همشنا الاطراف من المشاركة السياسية ومن التوظيف في مؤسسات الدولة السيادية مثل المالية ، الدفاع ، الداخلية والخارجية إلا بالترضية او المحاصصة او عبر اتفاقيات لا تساوى الحبر الذي كتبت به. اذا افترضنا أن الدولة مسلمة كصفة لها باعتبار أن الأغلبية مسلمون لم تكن هناك اشكالية ولكن المشكلة عندما تنعكس في القوانين وتفرق بين الناس وتميز بينهم.

مظاهر الفشل لا يخفى على احد ولكن السؤال ما هي المعضلة التي جعلت كل الحكومات على اختلاف مسمياتها واحزابها من اقصي اليمين الي اقصي اليسار تفشل في إيجاد دولة المواطنة التي تعترف بكل مكوناتها على أساس حد سواء، حزب المؤتمر الوطني سيئ الذكر ليس استثناء ما هو إلا امتداد لمنظومة الافكار الهدامة التي تحملها مجمل النخب. أذن الأزمة أزمة مفاهيم فكرية ادت الي فشل الحكومة الوطنية الأولى المدنية، وجاء العسكر ثم سرعانما تحولت الدولة الي دولة فاشلة فأنفجر الشعب وجاءت حكومة ديمقراطية وهي الاخري آلت الي الفشل ثم جاء العسكر مرة أخري ثم انهارت الدولة وأنتفض الشعب فأنتخب حكومة ديمقراطية سرعانما فشلت في تدوير عجلة التنمية ثم جاءت حكومة العسكر مع الإسلامين فأكمل حلقات الفشل فأنتج دولة فاشلة نتنة ازكمت رائحتها الانوف، إذن هناك ازمة مفاهيم تقود الي النتائج ذاتها تجعلنا ندور في حلقات فارغة تعيد إنتاج نفسها.

لا ريب أن تبدأ النخب رحلة التفكير مع الذات لمعرفة الاسباب الرئيسة لهذا الواقع المرير الذي يجثم على الحالة المزرية التي نعيشها منذ الاستقلال والي الآن ويشكل عائقا لكل حركة في اتجاه التقدم نحو فضاءات المستقبل، الكل يحتاج لمراجعة حقيقية لمعرفة درجة اسهام الذات لحل مشكلة الوطن، معظم الافراد والاحزاب والنخب ليست استثناء من الفكر الشمولي والرغبة في الاستحواذ والقصور في قراءة واقع الشعب وانتشار فكرة التخوين والعمالة بين ادبياتها مما يشير صراحة الي غياب النضج الكافي لايجاد وطن مستقر.

أن فكرة الانقلابات العسكرية واجهاض الديمقراطية وإن كانت هشة، وتمكين القهر والظلم والاحتقار وتهميش الآخر لا يمكن أن تنشيء وطن مستقر وإن نجحت في فترة زمنية وظن القائمون عليها أن ذلك ممكننا، فأن تجارب التاريخ (عبود ونميري وانقلاب الاسلاميبن داخليا وحزب البعث العراقي والسوري ونظام القذافي وبن علي والاحزاب الشيوعية خارجيا) أثبتت ان دول القهر والظلم والاستبداد والحزب الواحد لن تدوم وأن طال بها الزمن. أذن لابد لنا من مغادرة المحطات المظلمة والتصورات القاصرة الي خلق واقع جديد لتطوير الوعي المجتمعي حتى يستوعب كل مكونات المجتمع واعداد جيل واع قادر على نبذ كل أشكال التطرف والتشدد جيل يتحمل المسئولية ويحترم ويصون كرامة الانسان.

المخرج مما نحن فيه ليس بالأمر الهين ولكن بصدق النوايا والعزم والمصارحة مع الذات ومعالجة الخلل الذي عطل بنية الأفكار، والتي ما زالت تنتج الفشل تلو الاخر، فالاعتراف به أمر جيد نظريا ولكن يجب العمل والنضال من اجل تأهيل قيادات شابة وضخ دماء جديدة تتمتع بالحكمة والمقدرة في إدارة دولاب الدولة بحنكة واقتدار، قيادات تحمل هم الوطن والمواطن ولديها قدرة التفكير خارج منظومة الايديوجيات الحزبية الضيقة، والنظر تجاه المصلحة العامة بمنظار اوسع واشمل يقوي لحمة الشعب ويعزز تماسكه مع اهمية الاستعانة بالخبرات الوطنية المناسبة من اجل الاستفادة منها في مجالات العمل المختلفة.

وبالإمكان ازالة الغبش عن الرؤية المستقبلية لكي نري الضوء في آخر النفق الذي نأمل أن لا يكون بعيدا، اذا اعترفنا أن الاشكالية ليست في المسميات (مؤتمر وطني، مؤتمر شعبي، حزب الامة بكافة مسمياته، الاتحاد الديمقراطي بكافة انقساماته، حزب البعث، الحزب الشيوعي، والاحزاب الاخري بكل اختلافاتها) أنما تكمن في أنعدام النضوج الفكري والوعي المختل وانسداد الرؤية والسير عكس تيار العصر الذي نعيش فيه، مما افقدنا الصلاحية أن نقيم دولة تستوعب متطلباته، دولة قيم متماسكة منضبطة تستطيع أن تفهم الآخر المختلف وتحترم مبادئه، ولدينا في تجربة رواندا أسوة حسنة عندما تصالح الشعب واعترف بالحقوق والواجبات واصلح منظومة الافكار نهضت واصبحت دولة متقدمة عصريا، وكذلك سنغافورة كان يضرب بها المثل في الفساد، دولة لا تملك معادن ولا بترول لا مياه صالحة للشرب عندما عالجت منظومة المفاهيم الفكرية نهضت واصبحت واحدة من الدول ذات القدرات التنافسية في كآفة المجالات.

حل المشكلة لا تكمن في اصلاح حال الاسلاميين فقط، ولكن بمراجعات شاملة واشاعة روح التسامح والحوار وخلق فضاء للنقد الذاتي لكل النخب من احزاب وحركات ومنظمات وافراد، لان استقرار المجتمع وتحقيق رفاهيته مسئولية الكل وليس محصورا في فئة دون فئة، فلنعمل معا من أجل ايجاد الحلول الناجعة للحالة السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية والاجتماعية والاعلامية والبنية التحتية ومحاربة دوائر الفقر والمرض والبطالة والفساد وتوفير فرص العمل واصلاح المؤسسات الحكومية وتدربيب العاملين على اتقان العمل وحبه، كل القضايا اعلاها فشلت النخب التى تعاقبت على إدارة الانظمة السابقة والحالية منذ الاستقلال الي مخاطبة جذورها ولا تبدو برامجها وخطابها السياسي قادرها على حلها.

دولة القيم والعدل وصون كرامة الانسان تتطلب منا الخروج من دهاليز الأفكار المهترئة التي تخرج في مسيرة بسبب مقتل اطفال فلسطين ولا تهتز لها شعرة لخبر عن مئات القتلى من اطفال دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق، العقل الذي يخرج في مسيرة غاضبة لمقتل الشيخ محمود ياسين (له الرحمة) بأيدي اليهود الأسرائيلين وفي نفس الوقت تخرج في مسيرة فرح لمقتل الدكتور خليل ابراهيم (له الرحمة) بأيدي الاسلاميين أصحاب المشروع الحضاري، هو عقل يرفض مسيرة الشعب ضد الظلم والطغيان والجوع ويؤصد امامها كل المخارج للتعبير سلميا، العقل الذي يحبس في سجونه من سرق حفنة من الجنيهات بينما يتحلل من سرق المليارات، العقل الذي لا يفقه من الدين إلا فقه الحيض والنفاس، هو عقل لا يفقه من شرع الله إلا إقامة الحدود ولا يعرف تدبير الاقتصاد وفقه معاش الناس، عقل لا ينظر للمرأة الا من خلال الغريزة عقل يدلل اصحاب الكروش المنتفخة ويدوس على اصحاب البطون الجائعة، عقل لا يحلو له من معاني الصبر إلا انتظار ظلم الحكام على رصيف المعاناة دون التعاطي مع الاسباب والمسببات.

عقل كل المصائب عنده ابتلاء وفق منظور المعادلة المبتورة اي غير مكتملة العناصر، مثال ذلك الغلاة، الحرب النزوح بيوت الاشباح كلها ابتلاءات. ولكن كي نفكر وفق المعادلة الصيحيح (١+١=٢) والوصول الي الممكن لابد آن تكتمل وتتوفر عناصر وشروط المعادلة (ابتلاء +العبرة= النتيجة) اي الدورس المستفادة منها او الخبرة العملية المكتسبة حتي لا تتكرر وتعيد انتاج ذاتها. واحد من الاف الابتلاءات هي الفيضانات في كل مرة تحدث دمارا هائلا بدلا من الاستفادة من القصور والاسباب واقامة السدود والمجاري لتصريف المياه نكتفي بالاجابة المحفورة في الاذهان وفق الفقه الموروث: “أنها ابتلاء” اضافة علي عدم الفهم الصيحيح للدين، اي فهم يريدون !!!؟؟؟ لا ندري لان لبوكو حرام فهم ولداعيش فهم والقاعدة والحوثي وانصار السنة وهنالك المئات من الافهام.

مالم نعترف أن لدينا اشكالية حقيقية في طرق التفكير، وأن منظومة الافكار لدينا مكبلة بالماضي تسوس القضايا الجوهرية بناء على العواطف والمشاعر، مدعومه بمجموعة من الآيات والاحاديث واشعار الجاهلية، والكل يفسر على حسب ما يخدم اجندته، مما ادخلنا في غيبوبة فكرية، فأصبحنا لا نستطيع فهم العصر الذي نعيش فيه. عصر الموافقة والتراضي بين مكوناته على شكل الدولة وكيفية الحكم فيها، عصر لا يستطيع كائن من كان أن يفرض على بقية الناس رؤيته واجندته السياسية والدينية. عصر فيه يتساوي الناس بطريقة واحدة دون تمييز امام القانون وفرص العمل. عصر يكون فيه الناس في ذمة الدولة لا في ذمة الاحزاب او الافراد.

دكتور الهادي عبدالله إدريس ابوضفائر
abudafair@hotmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock