مقالات وآراء

جريمة اغتيال الدولة السودانية رقم ٣ وإذا الموؤدة سئلت

د. الهادي عبدالله إدريس ابوضفائر

لكل عصر موؤدة، فالجاهلية ليست فترة زمنية محددة بعنيها، إنما هي حالة من التردي القيمي والاخلاقي تعتري الانسانية في اي زمان ومكان، فإذا كانت جاهلية العرب وأد البنات احياء خوفا من العار، فجاهليتنا اكبر امرا واعظم خطرا، الا وهي جاهلية وأد العقل الإنساني مناط التكليف والتدبر والتفكير لبناء مجتمع يحترم ويصون كرامة الانسان.

العقل سببا مهما لتطوير البشرية وديمومتها ونورا أعطاه الله للإنسان ليصل به الي الحقيقة، فإن كان العقل سليما معافى يستطيع الإنسان من خلاله أن يوازن بين الأمور بواقعية، وهي النعمة التي ميز الله بها الانسان عن سائر المخلوقات الاخرى، فالعقل يصقل ملكة الابداع وينمي المواهب. كما انها وسيلة لصناعة الافكار من خلالها أن يميز الانسان بين الصح والخطأ والحق والباطل. فإن تم استخدامه بدون قيود وكوابح سيصل به الإنسان حتما الي اعلى قمم الطموح والهدى والحق الذي يتماشى مع طبيعة الانسان السوي والفطرة السليمة .

(ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي). الانسان هو المخلوق الوحيد الذي نفخ الله فيه الروح، ليكون خليفته في الأرض لتعمير الكون وتنمية البشرية واسعاد الانسانية والسعي في اطرافه والانتفاع بما يوجد فيه من خيرات، والتنقيب عن موارد الرزق فيه في البحر والبر والفضاء، وفقا لمنظومة الأخلاق التي تمثل اساس العدل المساواة. ولكي نفهم معني الروح لابد ان نتعرف على عالم الأمر. (إنما أمره إذا اراد شيئا أن يقول له فكن فيكون). إذن الله سبحانه وتعالى قد منحنا جزء من عالم الأمر،(المعرفة الانسانية) لبناء الكون ولكن عندما تعمدنا وأد العقل، واستبعدنا معرفة الروح من فضاءاتنا الفقهيه والعلمية ضاع المعنى الحقيقي للروح واضطرب الوضع حسيا ومعنويا.

فأصبح إعمال العقل والتعقل عندنا من المحرمات الدينية والاجتماعية والثقافية والتربوية وصار (النقل لا العقل) هي القاعدة والمعيار فتهنا في غياهب الظلامات وأصبح الفارق بيننا وبين المخلوقات التي من حولنا مسافة ليست ببعيدة وصار اراذل القوم اسياده، فأفسدوا أنفسهم باتباع الهوى والشهوات وأفسدوا المجتمع بقلب الحقائق وتشويه الافكار، ومارسوا هواية نشر الكراهية وإشعال الفتن والحروب وسفك الدماء، واختفت المعرفة وعم الجهل والغفلة والظلام كل مناحي الحياة واختلت الموازين والتبست الأمور وازداد الحال سوءا.

فصرنا في مؤخرة الركب وعالة على غيرنا من الأمم، بدلا من ان نكون سواعد بناء نقيم المجد بمجهودات فكرية وعلمية، مؤمنين أن الإنسان هو من يجعل الأوطان تشيع جمالا ومعنى، وهو من يصنع الأحداث بعلمه وعلمه وفقا لتصورات واعتقادات وتربية اكتسبتها من بيئة صالحة، لكننا أصبحنا معاول هدم تخرب وتدمر خيرات الوطن فمن يحمل في دواخله بذرة العنف من المستحيل ان يدعوا يوما للسلم ومن كان ايمانه بظلم اقرب من المستحيل أن يعدل.

بدأ وأد العقل باكرا، فالطفل الذي يدور في خلده أسئلة عندما يسأل والديه في كثير من الأحيان لا يجد لها إجابات شافية ومن ثم تعلق لتطرح من جديد في عملية ساقية مدورة قليلة النفع، فبدلا من التعامل مع الأسئلة بجديه وإعطاءه الإجابة المناسبة تبدأ عقلية القمع والاستلاب تمارس مهامها، (يا ولد ده سؤال أولاد!١) وتعمل عقليه الهروب (بكرة تكبر تعرف كل شيء) وعندما يشتد عوده ويكبر لم يجد هناك شيء يعرفه فتنشأ عنده عقليه المؤامرة والهروب وعدم مواجهة المشكلات ومحاولة تعليق فشله على الغير دوما، مما يجعل المشكلات أكثر تقيدا وتظل عالقة بغير حل.

عندما يذهب الطفل الي المدرسة لينهل من فضاء العلم والمعرفة كي يساهم في توعية المجتمع ورفع وعي الإنسان لاحقا، فبدلا من ان تمارس المدرسة الدور الطليعي لها وتغوص في عالم الافكار وتعمل على إزالة المخلفات الموروثة والفيروسات العالقة في ذهن الطفل التي تعوق تقدمه، على النقيض تبدأ فكرة الوأد اكثر قوة بقتل ملكة الفكر والإبداع والتصور وترسيخ مفهوم الثلاثية المدمرة (التلقين، الحفظ، والتذكر). مما انتج لنا نسخ مشوه مسكون باليأس خالي من ملكة الخيال والابتكار وبالتالي لم يكن لديه القدرة والحنكة على التعبير عما يجيش بداخله ويتملكه الإحساس بالزعر والشعور بالخوف مما يفقده الثقة بنفسه ولا يستطيع التعبير عن آرائه، وايجاد الحلول الناجعة لمشكلاته.

بروز فكرة ما يسمى زورا وبهتانا بثورة التعليم العالي فمنذ البداية كانت الخطة مدروسة لسلب العقول وتدمير قطاع الشباب، متخذين كل السبل التي من شأنها أن تنتشر الجهل والتخلف والامية مصحوبة بأمراض قاتلة مثل العنصرية والفساد، حيث تم افراغ المؤسسات التعليمية من محتواها فبسياسة التمكين تم طرد الكفاءات العلمية المؤهلة باتخاذ إجراءات تعسفية وعنصرية واحلال محلها كفاءات تنظيميه جلها لا يفقه من العلم الا ضرب الاستاتذة بالكفوف (حاج ماجد) شاهد على ذلك، انهم ائمة الضلال قادة الضياع الفكري والانحراف السلوكي .

حجم المؤامرة كبيرة لن تؤثر فقط على الجيل الحالى وأنما على الإجيال القادمة، وفقا لاستراتيجية معتمدة اطلقتها الحكومة وسخرت كل الامكانيات والطاقات لانجاحها، تم تحويل ساحات الجامعات من منابر علمية مفترض ان تناقش فيها البحوث والدراسات العلمية تحولت الي ساحات للحرب والقتل بين الطلاب فاضحى العنف داخل الجامعات من اعظم الاعمال حيث ترتقي مكانة الجامعة كلما كان طلابها اكثر عنفا وصارت ساحات العلم والمعرفة مسرحا تعيش دوامة من العنف الدموي الذي لا يجد له اصحاب العقول والنهى مبررا سواء الحماقة والطيش الجهل. فأصبحت الشهادات العلميه تمنح من غير اي معيارعلمي وتم تحويلها الي سلعة مطروحة للبيع ككل السلع يمتكلها من يدفع.

دليل ذلك أنتاج نسخ مشوه مطلوب منه الاجابة على اسئلة الحياة المعقدة فحين كان السؤال عيبا مما جعلنا امة تعيش وضعا تسود فيه ثقافة الخرافة والاسطورة والاحتماء بالماضي والافتخار به، فالنتيجة المحتومة انتشار الفساد في كل مرافق الدولة وصراع المحاصصة والمغانم في الوزارات مما شكل خطرا كبير على الامن الاقتصادي والاداء الوظيفي والامن الاجتماعي. عدم احترام النظم واللوائح بغرض تحقيق مكاسب ماديه وسياسية واجتماعية تخدم مصلحة فئة معينة، فأضحت ظاهرة الغني المفاجيء والفاحش عند اناس بعينهم، بينما يتضور معظم افراد المجمتع جوعا. في ظل غياب دولة القانون وصراعات السياسين كل حسب أنتمائه العرقي والحزبي تم استبدال المؤسسة العسكرية بمليشيات مدججة بالاسحلة من البسيط حتى الصواريخ تجوب شواع المدن مهمتها الاساسية قتل المواطن سواء كانت واعية للعبة ام لم تعيها.

انتشار الظواهر السالبة في شوارع عاصمة دولة الخلافة الاسلامية ذات المشروع الحضاري كسبا للقمة العيش والتسول الخارجي ارضاء لشريف نيجريا والسفر الي الدول العربية مقابل دراهم معدودة، فالشعب حائر ما بين مطرقة التشريد وسندان التجويع .عن اي شريعة نتحدث وعن اي دين نعتقد، بل محتاجين نبحث عن ما هي المعضلات الكبري التي تجعلنا نعيش تحت خط الفقر والجوع والمرض وامتهان الرذيلة مصدرا للرزق. بينما نحن غير قادرين على دفع فاتورة الدواء ناهيك عن مساهمتنا في بناء الكون تعميرا ونحن اصحاب مشروع حضاري يطبق شرعه الله بلا دغمسة، فالمجتمع الذي يغلب عليه الدين بقيمه الحقيقية يتحلى بالاخلاق الفاضلة والامانة والنزاهة ويندر فيه النفاق، مات عمر بن الخطاب رحمه الله فقيرا وسط ركام هائل من الثرواث بينما يعيش عمرا غنيا مترفا وسط الجياع.

دور العبادة ليست استثناءا من العقلية القمعية المدمرة للمسيرة الانسانية، ولكن هذه المرة تختلف عن سابقاتها لانها مزينة بلباس الدين والتقوي ومظاهر الخوف من الله والورع من حيث الشكل والمظهر يتحدثون بحلو الكلام ولكن اخلاقياتهم وممارساتهم العملية تتنافى مع قيم الدين وتعاليم الاسلام. فبدلا من ازالة المنظومة الفاسدة التي لا ندرك وجود لها ولكنها تفعل فعلها في قراراتنا، تبدأ مباشرة عملية وأد العقل بنظرية (لا للعقل) فتفرض حفظ المتون والمصنفات فيرددون كالببغوات، ولا يمكن الخروج عليها باعتبارها من المقدسات ولا يجوز مخالفة محتوايتها مما يتعارض تماما مع قول الله ( افلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) وليست بأعتبارها جزء من انتاج البشر (اجتهادات اناس على حسب الزمان والمكان والادوات المتاحة لديهم) والمخيف حقا هو اننا نسلم بصحتها وندافع عنها ونبادر لتبنيها.

حالة اللاوعي والغيبوبة الفكرية خرج جيل يحمل معه سلة من الافكار الفاسدة، فأصبحوا فقهاء للسلطان يأتمرون بأمره ويفصلون الفتاوي على المقاس المطوب يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، فبات الغاء الآخر منهجا للدعوة الي الله، مما فتح المجال على مصراعيه امام الافكار الخاطئة التي تتبني تكفير الغير منهجا، وذبح الانسان تقربا الي الله زلفى، والامثلة كثيرة وظاهرة للعيان.انهم فقهاء السلطان الذين رموا شرع الله وراء ظهورهم وقبلوا ان يكون أداة طيعة بيد الظالم المغتصب يستنبطون له الدلائل الشرعية لشرعنة الفساد والاستبداد متخذين من الدين مطية لتحقيق مصالح دنيونية زائلة ومكاسب سياسية رخصية.

التعاقد الاجتماعي هو المولود الشرعي للحظة التاريخة والناس الموجودين فيه لا يمكن ان يتكرر او يقوم بإعادة انتاج نفسه في بيئة اخري بنفس المواصفات والمقاييس. فليعلم فقهاء السلطان أن شروط التعاقد تختلف من مجتمع الي اخر بأختلاف الزمان والمكان والادوات المملوكة لديهم. لان إدارة شئون المجتمع هو نتاج طبيعي لمعطيات الزمان والمكان والظرف يتحدد بمحدداته. فالسؤال الذي يطرح نفسه هل مسلمو بريطانيا مقصرين لانهم لم يطالبوا بدولة الخلافة الراشدة ام تحكمهم ظروف الزمان والمكان والمجتمع. وهل كان سيدنا يوسف عندما كان وزيرا للمال في دولة يعتبرونها كافرة هل ذلك آثر في علاقته بربه. وهل الدين جاء ليكون عائق امام الحياة ام جاء ليكون وسيلة للتعايش بين الناس والدعوة الي الله بالتي هي احسن، مفرقا بين المسافات، صلتك بالله عبادا، وصلتك بعقاعدك وايمانك، ومشاركتك في الكون تعميرا وبناءا وليس تفجيرنا وقتلا وذبحا وتدميرا.

الدولة التي كنا نفاخر بها ونتعبر التسامح والعزة والشموخ واباء الضيم عنوانها الابرز باتت تتهاوي بين ايدي الدجالين والسفاكين دعاة الفتنة مصاصي الدماء، أصحاب الكروش المنتفخة والوجوه الكالحة، فأصبحبت مكره للناس وعقلية الاتباع والتبعية سيد الموقف وإلا تسمع نغمات (الحس كوعك والراجل يطلع بره والبمد رأسه نقطعوا). وما انفك منهج سفك دماء الابرياء وزرع الزعر بين المواطنين والجوع وتضييق الخناق وزعزعة ركائز الامن والاستقرار من سياسات الدولة، ولكن لابد لليل ان ينجلي ولابد للقيد ان ينكسر.عودتنا الشعب دوما لا يرضى أن يكون من الخراف متجاوزا كل المتاريس والعقبات بحثا عن الحرية والعيش الكريم.

لكل ظالم نهاية ولكن الظالمون هم سودانيون لكنهم لا يشبهوننا خلقا وخصالا، لان القتل وانتهاك حقوق الانسان وفساد القضاء والقمع بغطاء ديني منهجهم ولا يوجد لديهم افضل من بروز مرجعيه انتهازية باسم الدين تنجز معهم مشروعهم التعسفي ضد الشعب الاعزل إلا أن الشعب لم يبقى صامدا فهو قادر على اسقاط النظام وصنع غدا جديدا بعيدا عن الظلم والاستبداد وطن يؤمن بالتعايش السلمي منهجا والتواصل الاجتماعي بين مكوناته سلوكا، بخطى ثابتة وعزم لا يلين من اجل تحقيق امانيه واهدافة، فالتغيير مشروع امه لابد ان تحترم فيها كل الجهود المبذولة التي تصب في مشروع اسقاط النظام.

كي نفوق من كوبتنا نريد انسانا مختلف يحمل المشعل في زمن اليأس خالي من كل فيروسات التخلف والافكار الميتة وانسانا يحمل افكار حيه ينهض بالمجتمع ليتخلص من المعوقات والقيود الذي يعيقه من الانطلاق. فاذا فشلنا في انتاج ذلك الشخص، فمهما بذلنا من جهد في عالم المشاريع من كباري وسدود ومباني حتما ستؤول الي الخراب وبذلك نكون خسرنا المال والوقت، لاننا فشلنا في انتاج شخص يستطيع آن يحافظ علىه ويكون قادرا علي خلق علاقات جيدة سواء في الداخل او الخارج ورؤية مستقبلية ويمتلك اجابات للاسئلة للحرجة وويستطيع تغيير ما يحيط به من اشياء، فالحل يكمن في فك القيود من عقل الانسان ليجد له ممرات داخل دهاليز الوضع المأزوم ويستطيع التعامل معه والا سوف ندور في حلقات من التخلف تعيد انتاج نفسها.

د. الهادي عبدالله إدريس ابوضفائر
باحث قانوني جامعة جلاسقو كلادونيا ـ المملكة المتحدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock