مقالات وآراء

تقرير مصير جبال النوبة: بين شرعية المطالبة وتحديات الواقع المحلي والدولي

فشل الدولة السودانية منذ الاستقلال في الأعتراف بالتنوع وإيجاد سبل فاعلة لإدارة التعدد الاثني في السودان، وضعت البلاد بعد 60 عاما من الاستقلال في حالة من التفكك والانهيار المحتوم. شكل انفصال الجنوب، الذي يمثل الاثنية الأكبر التي كانت تسعى إلى تحقيق قدر من العدالة والمواطنة المتساوية في داخل الوطن، مرحلة تاريخية جديدة لا يمكن أن يتجاوزها اي شعب يعاني من الاضطهاد داخل حدود السودان. فتقرير المصير ونتائجه التي قد يكون أحدها الإنفصال، أصبح جزءا من الممارسة السياسية السودانية الان، وبالتالي فإن شرعية المطالبة بتقرير المصير لاي من الشعوب السودانية التي تشعر بالظلم والاستغلال لم تعد شرعية تحتاج إلى مبررات قانونية دولية أو حتى إقليمية، بل هي شرعية الممارسة السياسية التي قبل بها هذا النظام الحاكم الان، ونص عليها الدستور على الأقل في حق جنوب السودان والذي أدى إلى إقامة الاستفتاء الذي ادي
للانفصال.

هذا الواقع يجعل من غير المناسب ابدا الجدل حول أحقية شعب جبال النوبة وشرعية مطالبتهم بتقرير المصير. كما أن أي تشكيك في وطنية هؤلاء المطالبين بتقرير المصير في جبال النوبة أو غيرها من الأقاليم، لا يمكن أن يرتبط سوي بمصادرة حقوق الشعوب والأفراد في التعبير عن رأيها و حماية حقوقها بما يحقق مصالح تلك المجموعات. التاريخ يؤكد أن جبال النوبة لم تعش معاناة تاريخية أقل من الجنوب بأي حال من الأحوال. بل ربما عاش شعب جبال النوبة فترات شديدة القسوة ولمدد أطول نسبة لقرب المنطقة من المركز المتحكم والسلطوي. لذلك فإن جدل الشرعية في المطالبة والاتهام بعدم الوطنية هي مجرد مزايدات لا مكان لها في واقع الحال.

إذن من أي زاوية يمكن أن يبتدر النقاش حول خطوة المطالبة بتقرير المصير في قرارات مؤتمر الحركة الشعبية الأخير؟ ان المطالبة الأخيرة بتقرير المصير لجبال النوبة هي مطالبة سياسية ولذلك من المهم النظر إليها في إطارها السياسي كبند تفاوضي جديد اولا، وثانيا كرؤية سياسية مختلفة عن ما كان عليه الحال في السنوات الماضية. إذن على أرض الواقع يجب النقاش حول كيفية إدارة التفاوض مع النظام في ظل وجود هذا السقف الجديد من المطالب أو الخيار الجديد لايلولة الوضع في جبال النوبة وفي السودان عامة. ومن ناحية أخرى هناك الرؤية السياسية المستقبلية التي من المفترض أن تضع منذ الآن في اعتبارها كافة النتائج التي يمكن أن يؤدي إليها تقرير المصير، سواء استمرار الوحدة أو استقلال جبال النوبة. كما أن هذا القرار يستوجب حراكا دوليا حثيثا يقوم بإعادة موضعة قضية شعب جبال النوبة كقضية شعب يطالب اان بتقرير مصيره وربما في وقت ما تكوين دولته. مما يتوجب علاقات وتعاون دولي وإقليمي على مستوى مختلف في التعاطي مع وضعية جبال النوبة في خارطة الأجندة الدولية والإقليمية.

من المثير للاهتمام أن مؤتمر الحركة الشعبية يقوم بإعلان خيار تقرير المصير في أجواء إقليمية ودولية أصبح فيها موضوع تقرير المصير في قلب النقاش على طاولة العديد من الدول. فمن آثار العولمة التي توقعها علماء الجغرافية السياسية منذ القرن الماضي، هو تفكك الدول، وذلك نتيجة لرغبة الأقليات أو المجموعات الاثنية والثقافية في أن تتمتع بقدر أكبر من التمثيل والاستقلالية التي لن تتمكن من الحصول عليها في ظل حكم الأغلبية المهيمنة، أو تحالفات مجموعات أخرى، حتى وإن كان ذلك في إطار دول ذات نظم ديمقراطية. وفي خلال الأسابيع القليلة الماضية أقامت كل من كردستان العراق وكاتلونيا في اسبانيا عمليات استفتاء مستقل لتقرير المصير بعيدا عن رضى الدول التي تمثل هذه الأقاليم جزءا منها، بل والاهم بعيدا عن أي دعم دولي مباشر.

في مثالي كردستان وكاتلونيا نجد أن هناك فوارق كبرى في المقياس بين دولة منهارة وغير مستقرة مثل العراق، ودولة في قلب العالم الأول مثل اسبانيا. لكن العامل المشترك بين الإقليمين والذي شجعهما للقيام بهذه الخطوة، هو اولا ارتفاع الاحساس الداخلي لدى هذه الشعوب بالرغبة في الحرية والاستقلال بذاتها. ومن ناحية أخرى فإن كلا الإقليمين يتمتعان بوضعية اقتصادية وثقافية ذات استقلالية عالية بالفعل. وفي جبال النوبة رغم الحرب المستعرة فيها لكنها منطقة معروفة بغناها بالموارد والقوى البشرية أيضا، كما أن الإرادة السياسية جعلت خيار تقرير المصير مطلبا يلقى الكثير من التأييد الشعبي.

في نموذجي كردستان وكاتلونيا، كلا الإقليمين يمران الان بضغوط من الدول التي يشكلون جزءا منها، ويعانيان ضغوط إقليمية. ورغم فوز خيار الاستقلال في عمليات الاستفتاء في كلا الإقليمين لكن لم يتم رسميا الاستقلال أو الإعلان عنه. بل إن كردستان العراق أعلنت رسميا انها تعتقد أن الاستفتاء لا يعني الإنفصال بل يعني إعادة التفاوض على شروط العلاقة مع المركز في بغداد، مع الأخذ في الاعتبار أمكانية الاستقلال. يبدو أن الشعوب في عصر العولمة تسعى إلى وضع بصمتها وتحقيق إرادتها وتسجيل صوتها تاريخيا وان لم تكن قادرة على الحصول على كل ما تريد، فإنها تحصل على الاقل على مواقف تفاوضية أقوى عبر فرض إرادتها وتوثيقها.

لا ندري ماذا سيحمل مستقبل الايام لواقع جبال النوبة على المستوى السياسي، ويبدو أن ما قامت به قرارت مؤتمر الحركة الشعبية بتبني تقرير المصير، هو عملية سياسية أدت في مستواها الأعمق والبعيد المدى، ليس إلى ما يسمى برفع سقف التفاوض فقط بل إلى ما يمكن تسميته braking the glass ceiling ،أو كسر سقف التوقعات أو الحواجز التي تمنع تحقيق الذات لشعب جبال النوبة، بحيث أصبحت الآن كل الخيارات مطروحة ليس فقط أمام السياسيين الان بل أمام الأجيال القادمة من شعب النوبة. فإن التاريخ علم المتأمل له أن مصائر الشعوب تقررها عمليات تاريخية مستمرة وعوامل وتفاعلات معقدة، تحتاج إلى كثير من الصبر والحنكة لادارتها. فالاهم من تقرير المصير هو إدارة المصير اي كان، وهذه هي الغاية الأساسية من السياسة ومن النضال السياسي. أي إدارة طموحات الشعوب وإيصالها إلى مصالحها القصوي بأقل التكاليف وأفضل النتائج الممكنة.لذلك فإن تقرير المصير لجبال النوبة رغم أنه محاط بالكثير من التحديات المحلية على مستوى مكون المنطقة المتعدد أو التحديات الوطنية على مستوى السودان او التحديات الدولية، الا انه يظل سياسيا يظل خطوة هامة وفاصلة في تاريخ نضال الحرية والحقوق لشعب جبال النوبة.

عثمان نواي
15 اكتوبر 2017

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock