بقلم .مصعب عبدالكريم
“اضربهم كلهم ديل كلهم عبيد”
هذه الجملة القصيرة ليست إقتباس من حكايات أو قصص الرق والعبودية في العصور الوسطي .ولكنها جزء من حوار جري بين أحد طياري القوات الجوية السودانية عبر جهاز الارسال اللاسلكي مع غرفة العمليات العسكرية للجيش السوداني في إدارة عمليات القصف الجوي أثناء إحدي المعارك بين حركة/ جيش تحرير السودان و مليشيات الجنجويد و الجيش في منطقة جنوب السكة بجنوب دارفور ايام الحرب .حينها قال الطيار لغرفة العمليات في الخرطوم بأنه لا يستطيع التمييز بين مليشيات الحكومة و المتمردين “ثوار الحركة” لانه فقد الاتصال بمليشياتهم علي الارض طبعا بسبب ظروف المعركة أمر طبيعي يحدث كثير فقدان الإتصال .(عمليات يا سيادتك .يا سيادتك انا ما ما قادر أفرز ناسنا من التمرد يا سيادتك انقطع الاتصال مع القوي . اضرب بوين )
و كان الرد صادما من غرفة العمليات بالخرطوم ( اضربهم كلهم ديل كلهم عبيد) بالطبع هذا الموقف يجسد نتيجة ما قام به علي كوشيب لتسليم نفسه الجنائية طوعا بدلا من اعتقاله فيما بعد من قبل نخب المركز و تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية ككبش فداء للتفاوض لإنقاذ البشير و بقية مجرمي المؤتمر الوطني في المركز ….. وحسب الخطةالتي يخططها أحزاب المركز الحاكمة مع عسكرها الان هو قيام حكومة المركز باعتقال كوشيب و تسليمه الجنائية لان كوشيب بنظر المركز مجرد (عبد قتل العبيد) بعده ليتم التماطل في أمر تسليم البشير و صحبه من مجرمي المركز بزريعه أنهم في السجن علي خلفية جرائم أخري كالفساد المالي وغيرها من الأمور التافهة اذا قارنتها بجرائم الإبادة الجماعية ولكن لقد فاجئتهم علي كوشيب و سلم نفسه للجنائية و ربما سيلعب دور شاهد ملك بالاعتراف في الجرائم الذي ارتكبه بتعليمات من حكومة المركز بقيادة المجرم الكبير عمر البشير وهذا بالطبع سيربك حسابات النخب المركزية التي قامت بالسطوع علي السلطة علي ظهر ثورة الشعب كان شعارها الحرية سلام وعدالة و أخفقت في تحقيق الحرية و السلام و تماطل الان في ملف العدالة عن تسليم المجرمين المقبوضين المطالبين للجنائية ومحاسبة بقية القتلة في السودان .
منذا ثلاث ايام عندما تم تسريب خبر استلام كوشيب من قبل المحكمة الجنائية الدولية لأول حتي لحظة كتابة هذا السطور الساحة السياسية في الخرطوم أصابها صمت مريب يكتنفه الغموض من هذه الحادثة التي حدثت فجأة و اربك المشهد السياسي و حسابات النخب السياسية و عسكرهم من سكان القصر الي دور أحزابهم المختلفة بالخرطوم . لا صوت فوق صوت الصمت لا مؤيد ولا رافض و الصدمة هي سيدة الموقف داخل اروقتهم .
القارئ للتاريخ السوداني المعاصر عبر مراحلها المختلفة سيجد المبرر الحقيقي لهذه الصدمة الكبير و ارتباك السياسي ببساطة لان الواقعة كانت نقطة تحول في مجري العدالة في تاريخ السوداني . السودان دولة تعيش في أتون الحروب الأهلية و المظالم التاريخية الممنهجة من الدولة المركزية ضد الشعوب السودانية في الأطراف لأكثر من 64عاما و مليئة تاريخها بالمجازر و جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي دائما تؤدي في نهاية كل حرب في الأطراف الي ثورة شعبية تراكمية في المركز و إسقاط تلك الأنظمة الاستبدادية كما حدث في التغييرات المختلفة السابقة 1964 و 1985 ولكن في كل تلك التجارب لم تجري العدالة مجراها في حق ضحايا هذه الحروب والمجازر في الأطراف.(الجنوب و دارفور والمنطقتين والشرق) ولم يتم محاسبة ضباط الجيش و عبود مثلا بعد ثورة أكتوبر في حق جرائمهم في الجنوب و ايضا النميري وضباطه الشيوعيين والبعثيين بعد ثورة ابريل و لا الصادق المهدي في سنين حربه في الجنوب . هنا تكمن الإفلات من العقاب والحصانة علي المجرمين من نخب المركز لمختلف تنظيماتهم عبر التاريخ ..لان هذا منهجا سياسيا في المركز بأن يحكم الصفوة المركزية و عساكرهم السودان بطريقتهم الأحادية الشمولية المركزية و تتمرد الأطراف من أجل حقوق مشروعة في كشركاء في الوطن و تقوم الدولة الاستبدادية المركزية مستخدما آلة الدولة بارتكاب جرائم حرب ضد كل مواطني الأطراف في مختلف المناطق و تؤدي الأمور الي ثورة مسلحة متمرحلة و تراكمية و من الأطراف الي ثورة شعبية في المركز و يسقط الطاغي و لكنه يفلت من العقاب عن جرائمه الإنسانية في الأطراف بفضل حصانه مركزية و يحاكم محاكمات تمويحية تحت طائلة أمور تافهة كالفساد المالي و اختلاس الأموال و يتم تبرئته فيما بعد أو إطلاق سراحه بسبب تغير التوازنات السياسية في بلد غير مستقر سياسيا مثل السودان التي يمكن تغير التوازنات السياسية في أي لحظة .و هذه التجربة كانت قابلة للتكرار حتي في ثورة ديسمبر 2018 التراكمية التي حدثت بنفس طريقة الثورات السابقة والان يجري بعدها نفس الأمور بحق ضحايا الحرب من المجرم البشير وصحبه المطلوبين لان النخب المركزية و أحزابهم المختلفة و عسكرييهم الان يأملون قيادة السودان بنفس النهج القديم نهج البشير وقبله النميري و عبود المهدي التي أساسها دولة مركزية تحكمها أحزاب أو حزب مركزي او عسكر زات خلفيات حزبية يمارسون الاستبداد في الأطراف كما يشاءون ويستطيعون لها من القتل والبطش والابادة ويفلتون من العقاب في نهاية المطاف و لكن هذه المرة تغيرت التوازنات بفضل وجود المحكمة الجنائية الدولية في المشهد السوداني كلاعب رئيسي في تحقيق العدالة و عدم الإفلات من العقاب. هذا هو سر الربكة السياسية الحاصلة و الصمت المريب من الأحزاب الخرطومية و عسكرهم الذين هم الان يماطلون في قضية السلام و يفكرون في عدم دفع استحقاقات السلام والتنازل عن الامتيازات التاريخية الظالمة و ينون تكرار تجارب البشير في الدولة الشمولية و إقصاء الهامش و عند اللزوم استخدام آلة الدولة لقمعهم و قتلهم واعادة جرائم البشير بالكربون ولكن بعد استلام الكوشيب عرفو تماما بأن كل مجرم في السودان سيحاسب أمام القانون حتي إن لم يحكمه القانونين الوطنية مثل النميري و عبود و صادق المهدي سابقا الان سيحاكمه المحكمة الجنائية الدولية و نهاية كوشيب بالأمس و البشير غدا سيكون أيزة و عبرة لكل من يتوهم بجبروت السلطة و يفكر في الاستبداد بالشغب و ممارسة التطهير العرقي و الإبادة الجماعية من أجل الحفاظ علي شكلية الدولة المركزية المختلة والامتيازات التاريخية الظالمة .. لذلك يتوجس النخب المركزية في الخرطوم بصمت القبور .كأن السؤال الذي يساور عقولهم الان . اليوم كوشيب غدا البشير و عبدالرحيم و احمد هارون؟ ..و السؤال الذي يشغل عقولهم أكثر ثم ماذا بعد؟ هل في يوم ما ستصدر المحكمة الجنائية الدولية مزكرات الاعتقال بحق قيادات قوي الحرية والتغيير جناح الخرطوم التي تمشي الان بنفس خطي الإنقاذ في الصفوية و العنصرية و الإقصاء و عدم الاعتراف بمستحقات السلام إذا حدثت مواجهة مجددا بين الدولة المركزية مع الهامش ؟ الإجابة علي هذا السؤال نتركها للتاريخ فقط وحده يمكن أن يجيب علي جميع تكهناتهم و مخاوفهم من هذا التطور و محاسبة البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية مرتديا القميص الأحمر هي محطة لا مفر منها إن رغب أحزاب الخرطوم و عسكرها و ام لم ترغب في نهاية المطاف تحقيق العدالة هو أحد أركان الثورة و السلام في السودان مرتبط بتسليم المجرمين المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية كما نصت عليها مفاوضات جوبا للسلام الجارية و اي عرقلة لمحاسبة المجرمين هي بمثابة إعاقة مجري العدالة الدولية بالتالي سيكون المعيق جزء من الإجرام بموجبه سيتخذ المحكمة الجنائية الدولية إجراءات ضد كل من يعيق مجري العدالة كطرف اصيل في الجريمة كما البشير .
ولا شك أن هذا التحول سيعيد الامل لضحايا الإبادة الجماعية بأن العدالة في حقهم أمر قريب المنال و ستضاعف الثقة بين الضحايا والمحكمة الجنائية الدولية علي غرار المحاكم الوطنية التي لا تحكم الا لمصلحة الحاكم و ليس إلا مؤسسات تحمل صفة القانون يستخدمها الدولة لتصفية الحسابات السياسية مع خصومها من المعارضة و المواطنين .
ولا ننسي أن هذا المرحلة الدقيقة من تاريخ السودان التي لأول مرة بعدة ثورة شعبية يتم فيها تحقيق العدالة بمحاكمة المجرمين المتورطين في الحروب بالأطراف ولو كان ذلك ببطء قليلا قد تغير معادلة التاريخ للابد و تضع ثوابت جديدة من ضمنها المجرم مهما طال الزمن او قصر سيمثل امام العدالة بكل انواعها إن غابت العدالة الوطنية كالعادة لتتستر علي الحاكم المجرم فهنالك العدالة الدولية التي لا تتأثر بذلك و أن عهد الإفلات من العقاب قد ولي دون رجعة . وايضا أن السلام الشامل لا مفر منه في السودان للخروج الي بر الأمان و طالما كان هناك حروب طويلة في الأطراف ارتكبت فيها الدولة المركزية بمختلف عهودها هذه المجازر بالتأكيد هنالك جذور لهذه الازمات (الفيدرالية،الهوية،الدين والدولة،اختلالات موازين السلطة، والثروة،التهميش) وغيرها أو افرازات هذه الحروب (النازحين واللاجئين،التعويضات،العودة الطوعية ،نزع سلاح المليشيات،العنصرية، نزع الاراضي والحراكير ) هذه القضايا واخري ان لم يتم حلها بصورة جذرية لا سلام ولا استقرار في السودان وعلي الدولة السودانية في هذه الفرصة التاريخية تقديم التنازلات الحقيقية و دفع مستحقاتها لوضع حلول شاملة لها للخروج الي بر الأمان نحو وطن جديد يسع الجميع تحت مظلة السلام و الاستقرار و التعددية والتعايش السلمي وليس دولة بوليسية لنخب جهوية تسطوا علي الدولة والشعب بأكملها بصورة إقصائية وشمولية وأحكامها بقبضة حديدية و لا عسكر تقفز علي السلطة من علي ظهر دبابات .
ختاما أضم صوتي لصوت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية السيدة فاتو بنسودا بالأمس عندما قالت في كلمتها أمام مجلس الأمن الدولي مخاطبا ضحايا الإبادة الجماعية بدارفور … العدالة بحقكم في الجرائم المرتكبة بدارفور ستجري مجراها ان طال الزمن ام قصر و ما حدث بالأمس بترحيل كوشيب ليس الا محطة من محطات العدالة .و مثول البشير و أعوانه المطلوبين الآخرين في لاهاي امر حتمي .
..
و تحيا العدالة الدولية .
