مقالات وآراء

المديدة وملاح اصبر وام بلقصات: ثقافة الفقر ومكافحة الجوع في السودان

بقلم عثمان نواي

ان جوع السودانيين في عهد الإنقاذ أصبح حالة مزمنة منذ بداية التسعينات حيث كان التضخم قد وصل إلى ألفين في المائة. ثم تحسنت الأوضاع للبعض قليلا بعد اكتشاف البترول ولكن سرعان ما تدهورت مع قرب انفصال الجنوب واستمرار عمليات نهب موارد البترول التي جعلت أموال النفط لا تؤثر فعليا على أحداث اي نقلة نوعية في وضعية فقراء الشعب السوداني. فاحياء الخرطوم الطرفية ظلت تعاني الجوع والفقر المدقع منذ التسعينات إلى الان بداية من مايو ومانديلا إلى جبرونا والعزبة ببحري ومعسكرات السلام الحاج يوسف وأحياء انقولا والفتح وغيرها من أطراف مدينة الموت والجوع والتمييز والفساد المسماة الخرطوم.

على أطراف هذه العاصمة صنع الفقراء لأنفسهم أسواقهم الخاصة التي تبيع (قدر ظروفك) وقدر جيبك و المرحوم كان قدرك والكرور الجابو الخور. وهذه الاليات الاقتصادية لتخفيف عبء المعيشة هي من الابداع والاختراع الكامل لهؤلاء الفقراء على أطراف المدن وحافة المجتمع. حتى أن الطبقة الوسطى التي اصبحت تعيش هي نفسها في محل الطبقة الفقيرة سابقا والمسحوقة حاليا، أصبحوا يتبنون أيضا هذه الآليات المعيشية المخترعة من قبل الشعب الأكثر فقرا وفاقة. وقد انتقل الباعة ببضاعتهم منتهية الصلاحية والمستعملة والمقسمة حسب ظروفك في أوقات كثيرة إلى إحياء الطبقة الوسطى سابقا في أسواق متنقلة أسبوعية حسب الايام من سوق الأحد إلى الثلاثاء وغيرها من ايام الاسبوع في مختلف أحياء العاصمة وبعض مدن الولايات!

ومع اشتداد الضيق المعيشي منذ 2013 وبداية عملية رفع الدعم المستمر عن كل السلع أصبحت الطبقة الفقيرة أكثر فقرا. واما الطبقة المسحوقة في أطراف الخرطوم وكثير من ولايات السودان وخاصة تلك التي تعيش حالة حروب ونزاعات، أصبحت هذه المجموعات في حالة لا يمكن وصفها بالكلمات.. ولكنهم أيضا الأكثر صمودا، فقط لأنهم معتادون على الجوع وعلى الضغوط المعيشية التي لاتنتهي. فهم فارقوا اكل الرغيف منذ سنوات ولم يفارقوه هذا الاسبوع، هؤلاء المسحوقين، ياكلون وجبة واحدة منذ سنوات طويلة، عندما تخلو عن أي رفاهيات مثل الرغيف أو حتى الكسرة، فوجبتهم هي بليلة في الغالب أو رغيف ناشف أو عصيدة في أحسن الأحوال. تملح عصيدتهم بالملح والشطة أو حبة ويكة وخدرة تفرك بالماء وليس المرق. إذن فإن ارتفع سعر الرغيف أو لم يرتفع فهذه الفئة من المسحوقين لا يكاد يعنيها الأمر فالمبلولة ما بتبالي من الرش . فهم قد خرجوا منذ سنوات من دائرة اكلي الرغيف وشاربي الحليب الا في المناسبات وعند قبض بعض القريشات كاحتفال لا يدوم سوى عدة أيام في الشهر.

في سوق قورو في مايو وسوق العزبات في الفتح وسوق ستة وغيرها من الأسواق الطرفية، الجوع له حلول وكل شي موجود ولكن بطريقة مختلفة وشروط تشابه قدرة أهل المكان على الشراء. فإذا أردت أن تأكل الجداد أو الفراخ فهناك ملاح اصبر وهو ملاح أو دمعة مصنعة من ارجل الفراخ، وهناك الرقاب التي هي أعلى قيمة ورؤوس الجداد التي تقلي وتباع مع الشطة. هذه المطايب متوفرة مطبوخة كوجبات سريعة أو تباع ليقوم المواطن بطبخها بنفسه في شكل كيمان . فحتى دمعات الفراخ واللحم متوفرة للغموس، فالغموسة في الدمعة بجنيه. ولا أحد يطمع في أكثر من الغموس فلا تسأل عن تفاصيل وخيارات المنيو الأخرى.

اما اذا اردت اكل اللحوم فعليك بأم بلقصات وهي كل مخلفات أو متبقيات عملية ذبح البهائم وما يتبقى بعد استخراج كل اللحم. باختصار هي العظام و(الجلافيط) التي كانت ترمي للكلاب في ازمان غابرة كان للناس فيها شي من الكرامة في هذا المسمى وطن. و حتى وقت قريب كانت هذه السلع متوفرة فقط في أطراف العاصمة وأسواق المسحوقين لكنها الان اصبحت من أهم السلع في كل أسواق الخرطوم والولايات، واصبح لها بورصة وأسعار تنخفض وترتفع مع الدولار. فكوم الجلافيط حسب استطلاعات في السوق من الخرطوم وصل إلى 10 جنيه قبل ارتفاع سعر الدولار الجمركي. وعليه فإن هذه المأكولات التي تعطي المواطن الفقير في السودان ريحة اللحمة في الطبيخ ربما تصبح قريبا أيضا خارج مقدرته على الدفع.

اما التحلية فإن ام جنقر ومديدة الدخن فقد أصبحت منذ فترة طويلة الغذاء المحرك للشعب من ا لفقراء ومسحوقي السودان المجبرين رغم جوع بطونهم على الحصول على طاقة تمكنهم من تحمل العمل الشاق تحت الشمس في أعمال البناء والتحميل وغيرها من الاعمال الشاقة الهامشية التي تحتاج إلى طاقة كبيرة للعمل. وبالتالي أصبحت مديدة الدخن وام جنقر هي موارد تغذية أساسية تحتل مرتبة هامة في توفير فرص ملء البطن بأرخص طريقة. وهي ليست فقط تحلية ما بعد الوجبة بل هي نفسها الوجبة الرئيسية لكثيرين وربما الوجبة الوحيدة.

ان الشعب السوداني على مستوى المسحوقين لا يبحث عن الرغيف، لأنه خرج من حساباته منذ فترة لكنه ينتظر كما يبدو أياما حالكة لان السودان الان حتى البليلة العدسية أصبح يستوردها من الهند. لكن لابد وان عبقرية الشعب السوداني صانع آليات مكافحة الجوع والفقر منذ عقود ستجد وسائل ما للتعايش والتاقلم كما يفعلون منذ قدوم نظام مصاصي الدماء المسمى الإنقاذ. هذا التأقلم وثقافة الفقر التي ساعدت السودانين الفقراء والمسحوقين على النجاة والاستمرار في الحياة تحت قصف الكيزان بالقنابل أو الأسعار، لا يعني أن الشعب مستسلم للأمر الواقع لكنه يتعامل بعقلانية مع ممكنات ومتطلبات الواقع ، فلكي يموت الثائر في مظاهرة عليه أن لا يموت قبل الثورة من الجوع وهو داخل بيته قبل الخروج للشارع. ثورة الجياع التي يقودها مسحوقي السودان تبدأ من عبقريتهم الفذة في القدرة اصلا على البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف ينتزعون فيها حياتهم كل يوم من بين فكي الجوع القاتل والعجز والمرض . ولكن في ظل ثورتهم اليومية هم أيضا اول من يتقدم صفوف الثورة على النظام لأنهم أصحاب المصلحة الأوائل في أي تغيير حقيقي.. لكن من المهم الوضع في الاعتبار لكل قادة حراك التغيير أن الفقر والحوجة في السودان لها درجات مؤلمة تفوق تصور الكثيرين وان السواد الأعظم من الشعب ربما لا يخرج إلى الشارع ليس لأنه يخشى القتل بالرصاص، ولكن ربما لأنه لا يستطيع حمل جسده في مسيرة ورفع صوته بالهتاف وهو منهك من معركته وثورته اليومية لأجل ما يسد الرمق.
nawayosman@gmail.com

مقالات ذات صلة