مقالات وآراء

الدولة السودانية الأحادية: إلى متى هذا الغباء

ان الوصف الدقيق لوضع الدولة السودانية المركزية الحالية، هو أنها دولة أحادية وليست موحدة لا بكسر الحاء ولا بفتحها. فهي ليست بدولة قادرة على توحيد مكوناتها الاثنية والاجتماعية والثقافية لا حاليا ولا مستقبلا ، وليست بدولة ذات رؤية وطنية وحدوية شاملة لكل لتلك المكونات منذ نشأتها. ولكن واقع الحال أن الدولة السودانية المركزية هي دولة ذات منظور أحادي الرؤية شمولي وليس شامل. دولة عملت طوال 60 عاما منذ استقلالها على فرض لون واحد وثقافة واحدة ولغة واحدة على مئات الشعوب الذين يمتلكون مئات اللغات والثقافات والألوان. هذه الأحادية في الرؤية تم ترويجها على أنها عملية توحيد وبناء الدولة الوطنية، لكن تلك العملية لم تكن سوى عملية إلغاء وإقصاء واخيرا أبادة والتخلص من كل ماهو خارج عن تلك الرؤية الأحادية وليس الوحدوية الوطنية للدولة السودانية.

أن حقيقة التنوع الثقافي والأثني وحتى التنوع الطبيعي في السودان نظر إليه سدنة النظام الإحادي المركزي الذين بنوا ما سمي بالدولة الوطنية والتي أسست على ما يسمى بالحركة الوطنية، نظروا إلى حقيقة التنوع تلك على أنها معضلة، وهذا في أفضل فرضيات حسن الظن بتلك النخب التي شكلت الدولة السودانية. وكان الحل لتلك المعضلة هو باختصار اللجوء إلى سياسة الإقصاء ومن ثم الدمج بالقوة وعندما تمردت الشعوب المقهورة بدأ استخدام العنف المفرط بلا هوادة الذي أنتهي إلى الابادة الجماعية والحروب المستمرة إلى الان. لكن ما الذي دفع هؤلاء القادة الوطنيين إلى التعالي والإصرار على أحادية نظرتهم للسودان وتجاهل تنوعه؟ ببساطة ان السبب كان تجذر نظرتهم الدونية للآخر الذي لا ينتمي للونهم وثقافتهم ولغتهم التي اختاروا أن يفرضوها على السودان. تلك النظرة الدونية لها أبعاد تاريخية لا محالة، فهي مرتبطة بتاريخ الرق الطويل في السودان، إضافة إلى تجربتهم الحديثة وانتمائهم فكريا إلى الثقافة العربية التي احتقرت اللون الاسود تاريخيا والتي كانوا جميعا من المنتسبين لها تعليما وثقافة قبل انتسابهم لها عرقا أو نسبا.

على هذا الأساس كانت القواعد التي بنيت عليها العلاقات بين مكونات الشعوب السودانية، هي قواعد التباين التراتبي وليس الاختلاف والتباين المتساوي. حيث أن النظرة الدونية لكل ما هو غير عربي وغير مسلم جعلت الدولة الأحادية في السودان لا ترى في الاخر ندا لها او شريكا مساويا في الحقوق والواجبات والمواطنة. بل تم التعامل مع مناطق السودان الغير عربية وغير مسلمة على أنها مناطق للموارد الطبيعية قبل البشرية، وأنها أرض ذات جدوى أكثر ان كانت بلا بشر، فالبشر فيها ليسوا ذوو قيمة الا اذا كانوا عمالة رخيصة. أي إعادة إنتاج لنظام العبودية في إطار الدولة الحديثة. وتم ذلك فعليا عبر تهميش تلك المناطق اقتصاديا خارج خطط التنمية، في الوقت الذي تمت فيه عملية استملاك منظم للأراضي والثروات من قبل الدولة ومن حولها من أصحاب المصالح، حتى تمت عملية افقار وتكديح منظم، حولت سكان تلك المناطق من مكتفين ذاتيا إلى فقراء كادحين. وبالتالي وفروا الأيدي العاملة الرخيصة في احد أشكال الاستغلال والعبودية الحديثة للبشر، سواء داخل مناطقهم الأصلية أو عند اضطرارهم النزوح إلى أطراف المدن.

هذه المعادلة الغير المتكافئة التي تاريخيا يربطها البعض بفرص الوظائف لحظة السودنة قبل 60 عاما، حيث حصل الجنوبيين على 6 مقاعد مقابل 800 للشمال، تلك المعادلة ظلت قائمة إلى الان. فالنسبة لا زالت هي ثابتة إذا تمت المقارنة مثلا بين إعداد الطلاب في المائة الأوائل في الشهادة الثانوية بين المركز وبقية ولايات الهامش، بلا ربما تكون النسبة أقل بل قد تصل إلى الصفر. لكن الأهم الان وفي ظل بلد تعاني حرب اهلية منذ نصف قرن، فإن أسس المقارنة يجب أن تكون إذا مقاييس أخرى، مقاييس مرتبطة بواقع الحرب المستمرة وليس بواقع الحياة المدنية. فبمجرد تجاوز فكرة الحرب نفسها نقوم بصناعة معادلة غير متكافئة تلغي أكثر من ثلث إلى نصف مواطني السودان الذين يعيشون حالة حرب مستمرة منذ عقود. لذلك فإن احد المقاييس لهذه المعادلة هو ما إذا كان يمكن مقارنة إعداد القتلي والمشردين والنازحين والجرحى الذين فقدوا أعضاءهم، والأسر التي تفككت والممتلكات التي فقدت، والنساء اللائي اغتصبن بين المركز ومناطق الحروب . وبسرعة سوف ندرك أن هؤلاء هم من طرف واحد، حيث انه في الوقت الذي يعيش بقية الشعوب السودانية الذين لا ينتمون لمناطق الحرب، حياة عادية لحد كبير، ربما لا تخلو من معاناة، ولكنها في النهاية معاناة معيشية وليست معاناة الصراع من أجل حق الحياة نفسه، فإن تلك الشعوب الأخرى عاشت كل تلك الخسائر ولا زالت تعيشها بشكل يومي. فقد الأرض والمنزل وألامان والعيش تحت القصف وفي معسكرات النزوح تحت خطر الاغتصاب والعنف والجوع اليومي. إذن لا زالت تلك المعادلة غير متكافئة، بل أصبحت أكثر تعقيدا من لحظة السودنة، وتغيرت شروط مقارباتها وانعكس اتجاه المعادلة بالكامل.

ان تلك النظرة الدونية التي قادت إلى عدم التكافؤ ومن ثم إلى انعدام المساواة ومن ثم إلى استغلال وقهر الآخر ومن ثم إلى قمعه وإجباره بالقوة على شروط الدولة الأحادية، وفي النهاية إلى قتله وإبادته عند مقاومة تلك الشروط، تلك النظرة الدونية لها عدة مسميات. البعض يسميها تمييز، البعض يسميها عنصرية والبعض الآخر يسميها تهميش، بغض النظر عن المسمى، النتيجة الكارثية واحدة ولا خلاف عليها. الآن وبعد انفصال ثلث السودان وبينما تستعد أرباع واثلاث أخرى لنحو ذات الطريق، يطرح السؤال نفسه، اما حان لقادة الدولة العنصرية المركزية الأحادية أن ينظروا للآخرين كشركاء متساوين في الوطن.؟ اما حان لهم أن ينزلوا من ركاب التعالي على الآخر وفهم حقيقة أن هذا الوطن الذي ظل بعض من شعوبه يحاربون ضد أحادية هذه الدولة نصف قرن لن يكون ابدا لهم وحدهم وأن تلك الشعوب لن تقبل ابدا الاستسلام لتلك النظرة الأحادية؟ اما حان لهم الوقت ليحسبوا خسائرهم في هذه الحرب وليس فقط ان يحتسبوا شهدائهم في الجنة؟

للأسف فإن المركز الإحادي الذي ينظر لبقية مناطق السودان الغير عربية على أنها أرض بلا بشر، عندما يتحسرون على الحروب يحسبون خسائرهم من الموارد التي لا يستطيعون الوصول إليها بسبب الحرب، ولكنهم لا يحسبون ابدا خسائر البشر ولا حتى من جنود جيوشهم. ولكن هذا الغباء في النظرة الدونية والعنصرية والاحادية في النظرة أعمى بصيرة وبصر هؤلاء عن حقيقة خسائرهم في هذا الصراع من أجل السيطرة والهيمنة دون اعتبار لحقوق البشر وكرامتهم وحقيقة انهم متساوون مهما حاول البعض أنكار ذلك او تغييره. ان الخسائر التي يجب أن يحسبوها يمكن أن يروها في دول مثل ماليزيا وسنغافورة ودول مثل الهند ومثل جنوب أفريقيا تلك الدول التي صنعت نماذج تحترم التنوع والتعايش عبر احترام البشر وتنوعهم، مما مكن من استغلال الموارد وتحويل تلك الدول الي قوي اقتصادية لا يستهان بها. على سدنة الدولة المركزية الأحادية الفكر والرؤية، إعادة النظر فى فشلها وخسائرها من هذا المسار الإحادي الذي لن تتوقف مقاومته ابدا، لذلك فلا بد لهذا الغباء الإحادي المركزي أن يتوقف وان يرى هؤلاء ما تحت أقدامهم وما خلفهم حتى يروا ماهو قائَم أمامهم وماهو قادم نحوهم.

بقلم عثمان نواي

مقالات ذات صلة