قراءات و تحليلات

الحركة الوطنية السوداء فى السودان (5-5): ثورة على دينار شهيد الوطنية والاسلام

ستنفرد صوت الهامش خلال الايام القادمة بنشر بعض فصول كتاب ( السودان : من العنصرية الى التطهير الاثنى) للكاتب الاستاذ عثمان نواى والذى سينشر قريبا عن دار النخبة فى القاهرة. وهنا نلقى الضؤ على الباب الثالث فى الكتاب الذى يحلل تناقضات مفاهيم الوطنية السودانية منذ نشاة الحركة الوطنية فى مواجهة الحكام الاجانب منذ القرن التاسع عشر. وسننشر فى الايام التالية اجزاء من تاريخ الحركة الوطنية السوداء التى قادها السودانيون فى المناطق المهمشة منذ عهد التركية.

اما دارفور فهى كانت تحت حكم السلطان على دينار اخر سلاطين الفور والذى عاد الى دارفور, واستعاد مملكته بعد ان انهزم الخليفة فى كررى. حيث اخذ جنوده وعاد الى الفاشر, و استعاد حكمه واستمر فى حكم دارفور حتى عام 1916. فى الاعوام الاولى من الاحتلال لم تحاول الحكومة البريطانية محاربته وكان له علاقة ودية معها. اذ كانت خطتها ترمى الى ان تمده بالمستشارين حول كيفية حكم البلاد , ومن ثم تتركه حاكما داخليا على دارفور, حيث اعترفت رسميا بحكمه فى عام 1900. ولكن على دينار لم يكن متعاونا على الاطلاق ولم يرغب فى الاستشارات ولا مقابلة مندوبى الحكومة, كما رفض مراقبة القوات الحكومية للحدود. وكان يريد ان يعترف له بسلطة كاملة مقابل دفع جزية ورفع علمى الاحتلال الثنائى, ولكن مع احتفاظه باستقلالية فى الحكم فى سلطنته دون تدخل من الادارة البريطانية. والحكومة البريطانية بدورها كانت منشغلة بتثبيت الحكم فى بقية البلاد وكان على دينار يكفيها شر الفتح وتكاليف الادارة هناك. و منذ مد خط السكة حديد الى الابيض فى عام 1912 بدات الحكومة فى اعادة النظر فى علاقتها بدينار ولكنها لم تتحرك فعليا. وفى ظل تلك الاوقات لم تتحرك الحكومة لاخضاع دينار وقبلت بالامر الواقع . ولم يتقبل السلطان على دينار اللغة التى كان يخاطبه بها سلاطين باشا, الذى كان ضابط الاتصال بينه وبين الحكومة البريطانية. وكان دينار يشكو من الرزيقات ومن ان الحكومة تأوى الفارين من ارضه مثل مادبو زعيم الرزيقات.
وحتى عام 1913 كانت رسائل على دينار تنم عن ولائه للحكومة لكنه انقلب عليها حينما سنحت له الفرصة مع بداية الحرب العالمية الاولى عام 1914. فقد اتخذ على دينار موقفا مؤيدا للحكومة العثمانية والالمان فى مقابل البريطانيين, ولذلك قررت حكومة الخرطوم انهاء امر على دينار. ولكن انشغالها بالحرب اجْل اتمام المسالة الى عام 1916. فقد كتب السلطان على دينار للحكومة العثمانية ورد عليه السلطان العثمانى , وطلب منه الجهاد مع الدولة العثمانية , فاجابه على دينار قائلا : ” ونخبر جنابكم باننا منذ نشبت الحرب بين جلالة سلطان الاسلام وبين الالداء الكفار الفساق الانجليز وفرنسا ومايليهم , فمن وقته قطعت ما كان بينى وبين الكفار الملعونين من العلائق الودية وجاهرتهم بالعداوةواعلنتهم بالحرب .” ورغم الرسائل التى وردت اليه من الحكومة ومن العلماء الدينيين تنصحه بالتراجع عن الحرب, ولكنه اصر على تصفيه حسابه مع الحكومة البريطانية والدخول فى الحرب . وبدات المعارك فى مايو 1916وكانت فى منطقة برنجية قرب الفاشر. وقد كانت المعركة مثال للشجاعة والاقدام من قبل جيش الفور الذى فقد 500 رجل فى المعركة وقد كان المقاتلون يرمون بانفسهم على المربعات التى شكلها الجيش الحكومى. وفى النهاية فر الجيش الى جبل مرة, ولحقت به طائرات الحكومة وقصفته واسقطت اعداد اخرى من القتلى. وبعد 6 اشهر من المقاومة فى جبل مرة باغتت قوة بقيادة الاميرلاى هيدلستون على دينار وقواته القليلة المتبقية. واصيب على دينار برصاصة اسقطته على الارض, فالتف حوله رجاله وفتح عينيه وقال :” اليوم الموت اشهى الى من الماء البارد.” وهكذا سقط اخر حكام سلطنة دارفور التى ظلت تحكم لاكثر من 500 عام, واصبحت دارفور جزءا من الدولة السودانية , واسهمت فى حسم الحدود السيادية للسودان بشكله الحالى.
لقد دفع على دينار حياته ثمنا لموقفه الذى اختاره ليكون عدوا للانجليز, وذلك نسبة لتفضيله لانتماءه للدين الاسلامى اكثر ربما من اهتمامه بالحفاظ على مملكته. وهذا الموقف كان على النقيض تماما من مواقف بقية القادة الدينيين والصوفية وشيوخ القبائل فى شمال السودان, بما فى ذلك الختمية الذين كانوا الحلفاء التقليديين للاتراك اثناء حكمهم للسودان. والذين حظوا بالدعم المباشر من مصر والباب العالى اثناء حكم المهدية واثناء لجوئهم الى الفرار الى مصر هربا من المهدية. ولكن السيد الميرغنى لم يتردد لحظة فى دعم البريطانيين ضد الدولة العثمانية المسلمة, والتى كانت تمثل الخلافة الاسلامية وقتها والتى احتمى بها قبل سنوات ليست بالبعيدة. ذات الموقف اتخذته بقية الطرق الصوفية والعلماء والقضاة , والذين وقعوا جميعا على مذكرات تضامن مع الحكومة البريطانية فى حربها ضد الدولة العثمانية التى تمثل الخلافة الاسلامية. و جمع وينجت تلك التوقيعات بما فى ذلك توقيع السيد عبد الرحمن المهدى, و الذى ثار والده على الحكومة التركية وهو ربما الوحيد الذى كان له ثأر مع الاتراك, ولكنه ايضا له ثأر مع البريطانيين الذين اسقطوا الدولة المهدية, لكنه لم يتردد طرفة عين فى دعم الانجليز. ووقع المهدى على دعمه للانجليز وجمعت تلك التوقيعات فيما سمى بسفر الولاء, بل وقدم السيد عبد الرحمن المهدى سيف والده الى ملك بريطانيا فى رحلته الى بريطانيا مع وفد سفر الولاء الذى ذهب لتهنئة الملك على النصر على المملكة العثمانية وانهائها الخلافة الاسلامية الاخيرة. هذا الموقف من العلماء والزعماء فى الشمال يتناقض تماما مع موقف على دينار المستميت فى الدفاع عن انتمائه للاسلام كدين ومعتقد , ودفاعه عن موقفه يعبر عن احترام لانتماءه على حساب مصلحته السياسية. فقد ضحى على دينار بسلطته وحياته فى سبيل الحفاظ على انتمائه للاسلام , فى حين ضحى القادة الدينيين فى الشمال بانتمائاتهم وروابطهم بالخلافة الاسلامية التى تمثل المرتكز الاخير لعقيدتهم فى سبيل الحفاظ على سلطتهم السياسية وعلاقتهم بالحكام. وقد برر البعض موقف هؤلاء بانه موقف وطنى فى اطار الرغبة فى التخلص من عدو قديم عن طريق عدو جديد, اى التخلص من الاتراك عبر الانجليز, ولكن درجة التأييد والدعم التى عبر عنها القادة الطائفيون والدينيون فى الشمال والخنوع والخضوع الذى اظهروه ينم عن نوايا اخرى كما اثبتت مقبل الايام واحداث التاريخ المتلاحقة.
ان هذه الثورات وحركات المقاومة المستمرة ضد الانجليز فى مناطق السود الافارقة, لم تماثلها حركات مشابهة فى الشمال والوسط. بل كان الشمال فى حالة من الخضوع والامتثال الكامل للنظام الجديد. يقول احمد ابراهيم دياب :” لم تواجه الادارة البريطانية بمقاومة موحدة فى شمال السودان منذ احتلاله وحتى عام 1924, وذلك لانهم وجدوا من تعاون معهم تعاونا مخلصا, وقد تمثل الذين تعاونوا معهم فى العناصر التقليدية المحافظة وخير من يمثل هؤلاء الختمية والمجاذيب والاعيان ورجال الدين والعلماء.” لقد كان العقدين الاولين من الحكم الثنائى هما عقدى الثورات والحركات الوطنية السوداء, او الثورات التى قادتها المناطق الافريقية فى السودان. ومع بداية العقد الثالث وعندما اتى منتصفه بدأ الحراك الوطنى للسود او السودانيين من اصول افريقية يرسخ اقدامه داخل المدن. والحراك داخل المدن له اهميته الخاصة من اتجاهين, الاتجاه الاول يرتبط بان المدن وخاصة الخرطوم هى مركز السلطة , واى تحرك داخل هذا المركز يتطلب شجاعة كبيرة نسبة لتركز قوة الحكومة . هذا اضافة الى التحديات المتعلقة بالتنوع السكانى, والذى يفرض ان يخرج التنظيم والتعاون عن اطار المجتمعات ذات الاصول الافريقية, وصناعة تحالف مع المكونات الاجتماعية الاخرى للمدن من السودانيين ذوى الاصول العربية او حتى مع غير السودانيين. وخاصة المصريين الذين كانوا يدعمون الحراك الوطنى السودانى, باعتبار وجودهم كموظفين فى الحكومة, اكثر من كونهم جزء من الاحتلال. اما الجانب الثانى لاهمية هذا الحراك هو خلفية المجتمعات الافريقية السوداء التى كانت تقطن المدن السودانية المختلفة وخاصة الخرطوم. فهذه الخلفية كان لها التاثيرالكبير على مسار الحراك الوطنى, ومقدار التجاوب معه واسلوب قمعه, سواء من قبل الحكومة او الشعب او القيادات الدينية والسياسية السودانية.

مقالات ذات صلة