مقالات وآراء

إعادة هيكلة الدولة

اسماعيل عبد الله

جميعنا يدرك الخلل البنيوي الذي لازم دولتنا السودانية الحديثة , والذي نتج عنه اخفاق اداري و اقتصادي وسياسي ما زالت آثاره باقية , الامر الذي ادى الى عدم مقدرة هذه الدولة في التماسك , امام العواصف والتحديات والتحولات الكبيرة التي حدثت في الإطارين الداخلي و الخارجي , ومن اكبر عيوب هذه الدولة انها لم تستطع تحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية المتوازنة , طيلة عمرها الذي تجاوز الستين سنة , فهو ذات المدى الزمني الذي نقل دول اخرى من حضيض التخلف الى قمم النجاح , وهنالك عامل آخر من العوامل المعيبة التي اقعدت هذا البلد , عن النهوض والمضي قدماً في درب التطور و الازدهار , وهو موضوع الهوية , هذه المعضلة التي يراها كثير من السطحيين من مفكرينا انها معركة في غير معترك , بل ذهب بعض من نظن انهم قادة للرأي و الفكر الحر الى تهميشها , ووضعها في قائمة مترفات الفكر التي لا تسمن ولا تغني من جوع , لكن في الواقع المنظور نجد ان هذه الازمة قد شكّلت نسبة كبيرة من مجمل الازمات الاخرى , التي ينوء بحملها ظهر هذا الوطن المثقل بالجراح , فهي أشبه بالخطأ الذي يرتكبه الروائي في اختياره لعنوان واسم روايته , فالعنوان هو التعريف بالشيء , و عندما يقع الخطأ في هذا الامر الجوهري , فان النتيجة الحتمية تكون هي سقوط هذا المعرّف في غياهب الظلام , فيصبح شيئاً هلامياً غير ذي جدوى , ولا يحظى بقيمة ولا ثمن , فمع الأسف هذا هو حالنا في سودان العزّة اليوم , او كما عرّف هذا الحال صديقي خفيف الظل عندما قال : ان حالنا هذا اشبه بحال مولود مجهول النسب , تجده تائهاً و ضائعاً ومتقلباً , مرة ذات اليمين ومرات أخر ذات اليسار , دون ان يجد من يقبل به , تماماً مثل متاهتنا المرهقة في البحث عن اثبات الذات في محيطنا الاقليمي .
إنّ كل الانظمة التي تعاقبت على سدة الحكم في البلاد , والتي ورثت لبنة اساس قوي ومتين لمؤسسات دولة موعودة بكل اسباب التوفيق , كل هذه الانظمة فشلت في ان تحافظ على هذا الاساس المتين من التصدع و الانهيار , فتخاذلت في القيام بمهمتها الاخلاقية في الصيانة المادية و المعنوية لهذه المؤسسات و رعايتها , ناهيك عن تطويرها وتحسين ادائها , فتعاملت النخب السياسية السودانية الحاكمة مع هذه المؤسسات , بنوع من الاستهتار والاهمال وعدم الاكتراث , فاضمحل دورها و خربت و بنى فيها العنكبوت بيته الهيّن , وخير مثال على ما نقول هو هيئة سكك حديد السودان , التي تُركت ليأكلها الصدأ حتى بيعت كحديد خردة في بعض محطاتها , وقس على ذلك الهيئات و المؤسسات القومية الاخرى , فالحيرة تتملك كل صاحب حس وطني صادق , وتدعه يتساءل , ما هذا التقاعس الذي يمارسه ابن البلد , وما هذا التخريب المتعمد الذي يستهدف به بنية وطنه التحتية ؟؟ , فانه لابد للبديل القادم من وضع استراتيجية وخطة وطنية شاملة للاصلاح , لاعادة دور هذه الهيئات والمؤسسات الحكومية الى سابق عهدها , وبطبيعة الحال انّ تطبيق بنود مثل هكذا استراتيجية , على واقع ارض الدولة السودانية المنهارة , لن يتأتى لأي نظام بديل للانقاذ , الا بعد ان يرسي هذا النظام البديل قواعده عميقاً في تراب الوطن , ليقام عليها بنيان المؤسسات التي يرجى منها تأدية الدور المحاسبي و الرقابي و القانوني والقضائي , وحتى تعمل هذه المؤسسات الرئيسة بفاعيلة ونزاهة , على البديل القادم ان يضع مرتكزات صلبة لاعلام وصحافة حرة , لان هذه السلطة الرابعة اذا منحت صلاحياتها كاملة , سوف تكون هي الموجه الاخلاقي لسلوك افراد ومؤسسات هذه الدولة التي نحلم بها.
كذلك من ضرورات هذه الهيكلة , تفكيك واستئصال سرطان احتكار الوظيفة العامة , فلجنة الاختيار القومية يجب ان تكون قومية معنى وكلمة , ففي قطر متنوع ومتعدد في كل شيء مثل السودان , على الجهات المنوط بها اختيار المتقدم للوظيفة العامة ان تكون محايدة , وغير موبوءة بالامراض الحزبية و الجهوية و العرقية و الطائفية , فالانتماء الحزبي او الجهوي او العرقي او الديني للمتقدم لاي شاغر وظيفي , يجب ان لا يكون محدداً لاحتمالية حصوله على الوظيفة المعنية او عدمه , فالكفاءة و المهنية و احراز النتائج المرجوة في الامتحانات الشفوية و التحريرية , هي التي يجب ان تكون الفيصل في اختيار هذا الشخص او ذاك , وبذات روح هذه الاطروحة التي تستقصد مسألة الاختيار للوظيفة العامة , تكون الآلية التي يجب ان يتبعها الجهاز السياسي للبديل القادم , في اختياره للدستوريين من وزراء و ووكلاء وزارات , و مدراء الهيئات والمؤسسات و البنوك , والسلك الدبلوماسي و ما يتبعه من ايفاد للسفراء و القناصل و السفراء المنتدبون لتمثيل البلاد في الهيئات الدولية , كالامم المتحدة و الاتحاد الافريقي.
هنالك ايضاً كارثة الانفجار السكاني في المدن المركزية الثلاث , و هي نتاج لذات الاخفاق الاداري , و قصور رؤية هذه الدولة الفاشلة في ادارة التنوع الذي تذخر به البلاد , حيث انه ما كان لسكان الاقاليم ان ينزحوا و يتمركزوا في هذه المدن , لولا انعدام الخدمات الصحية و التعليمية و الامنية في اقاليمهم , فاعادة هيكلة الدولة لن تؤتى ثمارها اذا لم يتم تفعيل وتوسيع دائرة ظل النظام (الفدرالي) الحقيقي , الذي تكون فيه الاقاليم الستة الكبرى وهي : الشمالية – الخرطوم – الشرق – كردفان – دارفور – الاوسط , متمتعة بنظم ادارية تمكنها من تصريف شئونها الاقتصادية والمالية , بحيث تقوم بالانفاق على الخدمات الاساسية لمواطنيها , تلك الخدمات التي تمثل عصب حياة الانسان , حتى لا تطره للهجرة الى مركز الدولة , هذا الوضع الكارثي قد تفاقم اكثر فاكثر في عهد الانقاذ , بسبب النهج الاقتصادي الفاسد والمدمر الذي انتهجه الدستوريون الانقاذيون , مثلما حدث في تسعينيات القرن الماضي , في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور , عندما كان عبد الحليم المتعافي والياً عليها , حيث ارتكب واحدة من ابشع جرائم التخريب الاقتصادي الممنهج , وذلك بعرض (هيئة تنمية غرب السافنا) في مزاد ودلالة خاصة , كان هو المستفيد الاول منها , تلك الهيئة التنموية التي كان يمولها المناحون من كل من الولايات المتحدة الامريكية و الاتحاد الاوروبي , ويعمل بها عشرات العمال و الموظفين و السائقين , وبها عشرات الشاحنات و السيارات الخفيفة من شاكلة (اللاندروفر) , ولها الكثير من الآليات الثقيلة ومعدات حفر الآبار , كما قامت هذه الهيئة بتاسيس وبناء العديد من المستوطنات , التي ساهمت في استقرار اعداد كبيرة من الرحل ورعاة الابقار , في عمل تنموي ريفي فريد فشلت في القيام به منظومات الحكم المسماة بالحكومات الوطنية.
إنّ بشريات زوال الطاغوت ورموز الهوس الديني قد لاحت في الافق , فعلى كل المناضلين الشرفاء ان يعدّوا انفسهم لمرحلة مفصلية في تاريخ الدولة السودانية , اولى تحدياتها هو تحقيق السلام الشامل و العادل في ربوع البلاد , وثانيها هو تأمين الخدمات الاساسية للمواطن , من سكن وخبز وعيش و دواء وكساء و تعليم.
ismeel1@hotmail.com

مقالات ذات صلة