مقالات وآراء

إحذروا فتاوى فقهاء السلطان

منذ ما قبل العصور الوسطى درج غالبية الكهنة و القساوسة ورجال الدين على التمكين للطاغوت ومؤازرته , الا القليل منهم هو الذي يستفتي قلبه ويعمل بما يمليه عليه دينه و ضميره , فمعظم الفقهاء يزينون الباطل للحاكم , و يباركون له بطشه بشعبه حفاظاً على ما يجود به عليهم من فتات مائدته , ومع بزوغ فجر ثورة التحرير السودانية وبداية اشتعال نيرانها هذه الايام , أطل علينا فقهاء السلطان من على منابر بعض مساجد الاحياء والمدن , يثبطون الهمم و يخذّلون الشعب الذي ثار من اجل لقمة عيشه , فشطحوا في خطبهم المعادية للوطن و المواطن , و علت صرخاتهم المناشدة للناس بعدم الخروج على الحاكم , دون ان يقدموا هذه المناشدات و النصائح لولي الامر الذي قصّر في واحد من اوجب واجباته , وهو رعاية مواطنيه و توفير مخزون الذرة والقمح لتأمين عيشهم الكريم , فعندما يعجز الحاكم عن الوفاء بهذا الواجب الاساسي , فبعد ذلك ليس من الحق ان يطالب هؤلاء المتفيقهون المواطنين البسطاء , لأن يركنوا ويستسلموا للظلم الذي طال امعائهم , و حرمهم الخبز و الطحين و دقيق القمح , فكل خطيب يعتلي المنبر قبل اداء صلاة الجمعة , عليه ان يخطب في الناس بضرورة ازالة الحاكم الظالم , و اهمية الخلاص من الأمير الذي لا يهتم لأمر أمته , والذي يرى اطفالها جائعين تتلوى اجسامهم من فرط خواء المعدة , فالواجب الاخلاقي يحتم على الفقهاء وأئمة المساجد الوقوف في صف المحرومين و الكادحين , الذين لم توقد نار الطبخ في بيوتهم بسبب انعدام الرغيف , فان امر اطعام الرعية خشية وقوعها في براثن الجوع , وتأمينها من كل اسباب الخوف و الرعب , يعتبر من اكثر الواجبات قداسة , ومن الضرورات القصوى التي يجب على امير المؤمنين الايفاء بها.
اذا لم يتضامن دعاة الحق و الفضيلة من علماء الدين مع قضايا المواطنين , من غلاء طاحن في اسعار السلع الاستهلاكية وندرة في الخبز , فان العار سيلاحقهم اينما حلوا , لان الفضيلة ليست خطباً منمقة تلقى في بيوت الله التي يؤمها هؤلاء الجوعى , و ليست ارتهان للظلم ولا محاباة لاهل الرئاسة والسيادة وحرق البخور لهم , ان التبشير بالقيم والمثل النبيلة الذي نسمعه من افواه الكثيرين من الخطباء و الفقهاء عبر شاشات القنوات الفضائية , لا يكون فاعلاً و صادقاً الا بعد ان يتناول الهم العام للناس , خصوصاً في ايامنا هذه , فاليوم هو الامتحان الاكبر لكل من نصب نفسه راعياً للاخلاق , ومدافعاً عن الضعفاء و الفقراء والمساكين , ففيما سبق هذا الحاضر الثوري الذي صحى فيه الضمير الجمعي للأمة السودانية , كانت فتاوى علماء القصر السلطاني هؤلاء تتمحور حول زي المرأة وكيفية مشيتها في الطرقات, و بعض القضايا التي تعتبر بحسب اولويات المرحلة الحالية انصرافية من الدرجة الاولى , فهذه المرحلة لها هم وقضية واحدة تنضوي حول مفهوم الآية الكريمة الرابعة من سورة قريش : (الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) صدق الملك الجبار , فاطعام الخالق لنا لن يتأتي الا عبر بوابة الحاكم العادل , من امثال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب والخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز عليهما رضوان الله , فسيرة كلا الرجلين مليئة بالمواقف التي لا تحصى من قصص وفائهم لرعيتهم كامراء وخلفاء راشدون , فاين نحن اليوم من هذين العمرين ؟ , وهل هي سخرية القدر ان اتت الينا بعمر الذي لا يشبه ولا واحد من هذين العمرين في شيء ؟.
لقد جسّد ولاة امرنا في عهد الانقاذ اسوأ مثال للحكم الاسلامي , الذي تباعدت فيه الخطى بينهم وبين تعاليم الدين الاسلامي الواضحة و الصريحة , فيما يتعلق بنصرة الضعفاء و الكادحين , فلم يكونوا ابداً مثالاً للتواضع و لهفة المظلوم و كفالة اليتيم و ايواء عابر السبيل , و رعاية المصنفين من اهل الحاجة في مصارف الذكاة المعروفة , لقد بُني الصرح الذكوي العملاق في عهد الاسلاميين في العاصمة الخرطوم , و حُصّلت الذكوات من جميع انواع المداخيل , وما تزال امة الاسلام السودانية تعاني حالة من الفصام بينها وبين حكامها و وزرائها , فالامراء و الورزاء في عهد هذه العصبة الانقاذية اتخموا باكتناز الاموال المنهوبة والمختلسة من بيوت اموال المسلمين , لقد ضربوا بكل التوجيهات الربانية النبيلة عرض الحائط , فسجلوا أعلى نسبة للارقام القياسية في الفساد واكل اموال الناس بالباطل , فلو حدثت مثل هذه المخالفات المالية في ظل نظام حكم لاديني , لكان من الجائز والممكن ان يجد الناس العذر لمثل هكذا نظام , وذلك وبكل بساطة لانه لم يأت للحكم وقيادة الناس رافعاً الشعارات الدينية من شاكلة (الاسلام هو الحل) , و لم يسوق الناس بوعود ميتافيزيقية خيالية في امور عملية و واقعية لا تقبل التأجيل , إنّ قيادات ما يسمى بالحركة الاسلامية في السودان , قدموا أفشل نموذج لنظام حكم الاسلام السياسي الهادف الى الاصلاح , عبر إغتصاب السلطة واستخدامها كاداة لتنفيذ هذا الاصلاح , وجرّوا معهم في هذا المضمار الكثيرين من اتباع ورموز الجماعات الاسلامية لاخرى , المؤمنين باجندة ما اسموها الدولة الرسالية ومشروعها الحضاري , تلك الدويلة التي رسب قادتها في جميع امتحانات النبل و الاخلاق و النزاهة , فتاجروا بآيات الله و اشتروا بها بضاعة دنيوية كاسدة و وضيعة و وبخسة الثمن.
الم يقرأ هؤلاء الانقاذيون وفقهائهم سورة الماعون ؟ , ليعقلوا ما جاء فيها من رسالة صريحة , تحضهم على اطعام المساكين , أم على قلوبهم اقفالها , إنّ هذه السورة تحتوي على مقارنة بارعة بين حال من يتلو على الناس آيات الله , وما بين نشاز سلوكه الذي لا يتوافق مع معاني ما يتلوه من آي الذكر الحكيم , و تُحدثنا هذه السورة عن العاقبة الوخيمة التي سيؤول اليها المكذبون بالدين , الذين يدُعُّون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين , وكأن معاني هذه السورة قد فصلت لتناسب حال قادة التنظيم الاسلامي في السودان , خاصة عند وصفها للساهين عن صلاتهم بالمُرائين , والتصاق خصيصة منع ماعون الطعام عن الفقراء و المحتاجين بقادة هذا التنظيم الاسلاموي , فهذا هو ما قام ويقوم به قادة الدويلة الرسالية المزعومة , التي سخّرت العاطفة الدينية الفطرية والجياشة لافراد الشعب السوداني , لتحقيق مشاريعها الجشعة و التوسعية في جباية وتجنيب الاموال , هذه الاموال التي كان من باب اولى ان تذهب لبنود صرفها المستحقة في الخدمات و شئون معيشة الناس , فعلى جماهير ثورة التغيير الحاضرة ان يلا يعيروا فتاوى فقهاء الحاكم اي اهتمام , هؤلاء الفقهاء الوالغون في إناء مائدة السلطان المكدسة بطعام هذه الشعوب المحرومة , التي ضربها البؤس و الشقاء نتيجة لأنانية وجبروت هذا الأمير , فما على هؤلاء البؤساء الا أن يعضوا على مشروع انتفاضتهم بالنواجز , فهو السبيل الاوحد الذي بمقدوره إخراجهم الى البر الآمِنْ.

اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com

 

مقالات ذات صلة