مقالات وآراء

رداً على بروف عبد الله في انتقاده للكتاب الاسود

في مقال بعنوان (الكتاب الاسود : سقف برجوازية دارفور الصغيرة للنهضة) , تحامل الدكتور عبد الله علي ابراهيم كثيراً على مقاصد هذا الكتاب الذي اثار جدلاً كبيراً , فقام بانتقاد النخبة الدارفورية و اطلق عليها اوصافاً من شاكلة برجوازية دارفور , و له في ذلك حق اصيل كاكاديمي ضليع ومراقب للشأن السوداني عامة , و للأزمة في دارفور بصفة خاصة , مثلما لنا من حق الرد على ما نراه غير متسق مع الطرح الشامل , الذي جاء به الكتاب المعني , فمحاولته تسفيه ما جاء به الكتاب الذي فضح منظومات الحكم المركزية المتعاقبة , وذلك بكشفه لاعتلال و اختلال ميزان العدالة في الدولة السودانية الحديثة , وبالارقام والاحصائيات الدقيقة , فهذا امر غير موفق من رجل باحث واكاديمي يرجى منه تقديم الحلول , و المعالجات النافعة لازمات الوطن السياسية و الفكرية, بحيادية لا يشوبها الميل العاطفي لذوي القربى و الاهل في الجهة , ان حساسية قضايا الهامش السوداني الذي اهملته النظم المركزية في التنمية , تتطلب الدقة وعدم الانسياق وراء إلهامات الترف الفكري , و اتباع الطريقة التقليدية للمثقف المركزي في نظرته لازمات الوطن الشاملة , فوصفه لقيادات حركات دارفور بالبرجوازية الصغيرة وصف جانبه فيه الصواب , فالبرجوازية بحسب تعريف الفكر الذي يعتنقه كاتب المقال , هي طبقة تمتلك رؤوس الاموال وتسيطر على مؤسسات الدولة و المجتمع , وتعيش هذه الطبقة على فائض قيمة عمل العمال , ومن طرافة هذا التعريف ان كل هذه الاوصاف التي حواها تنطبق على عصبة المؤتمر الوطني التي يداهنها الكاتب , في كثير من كتاباته و احاديثه المنقولة عبر تلفاز الحكومة , اكثر من تطابقها مع حال قادة الحراك الثوري في دارفور , فالشهيد خليل ابراهيم كان ابن اسرة بسيطة من قرية (الطينة) , التحق بالمدارس الحكومية مثله مثل ابن اي مزارع , او موظف دولة صغير في ذلك الزمان , و على ذات الطريق سار الشهيد المهندس داؤود يحي بولاد , ابن الاسرة المتواضعة التي لا علاقة لها باكتناز الاموال و التجارة , ولا يشغل اعمامه و ابناء عمومته وظائف عليا في الدولة.
يقول عبد الله :(فرهن مثل هذه الثورة بقيادات غاب عنها البعد القومي , وايقظت فتنة النعرات الاثنية و الثقافية لمآربها ) , ولكأني بالبروفسور الشهير يحاول رمي قيادات الحراك الدارفوري بداء قومه وينسل , لانه من المعلوم بداهةً لنا جميعنا , ان البعد القومي قد غاب عن منظومات الحكم المركزية في السودان منذ الاستقلال , فاكثر ما يميز كل الانظمة الحاكمة التي تعاقبت على كرسي السلطة , هو نشاز التشكيلة المسيطرة على دفة الادارة , وبين ظهرانينا نظام الانقاذ و تمكينه للممارسة الجهوية في مفاصل مؤسسات السلطة , اما فتنة النعرات الاثنية يا عزيزنا عبد الله فقد أسس لها النظام القائم اليوم , وانشأ لها قسم متخصص في جهاز امنه ومخابراته , اطلق عليه مسمى شعبة القبائل , لكي يمدد رجليه ليخطط وينفذ اوامر إشعال الحروب القبلية و النزاعات العرقية في السودان , وفي سبيل هذا النشاط الاجرامي بُذلت الاموال و الميزانيات الضخمة , وفي ذات المقال الذي نحن بصدده اليوم سطر قلم الدكتور ما بين القوسين : (فاوسع تظلماتها انتشاراً كان الكتاب الاسود الذي انصرف بشكل رئيسي لبيان قلة حظ مثقفي دارفور) , وهنا افتقار للامانة العلمية و تبسيط مخل لما جاء في الكتاب الذي كشف عن خبايا الظلم المؤسس , الذي ظلت تمارسه انظمة الحكم المركزي عبر جميع حقبها , حيث ان الكتاب ابان بشكل رئيسي اختلال ميزان العدالة في جميع اقاليم السودان , وكانت الجدولة شاملة , و لم تترك اقليم الا واحصت ما له من عدد من السكان , مقابل ما يستحوذ عليه من نفوذ اداري في هرم سلطة الدولة , فرؤية الكتاب يجب ان لا تُختزل في المحور الدارفوري , لان محتوى الكتاب بمجمله يعبر عن رؤية شاملة , يمكن ان تكون قاعدة بيانات يعتمد عليها في إحقاق الحق , وحل الازمة الوطنية المستحكمة بشكل جذري , كما اعيب على الدكتور عبد الله هذه العبارة الغير دقيقة و المزيفة للحقيقة (قلة حظ مثقفي دارفور) , فحصر حقوق اهل دارفور ومثقفيهم في قدرية الحظ و معادلة القسمة والنصيب , يمثل عينة و نموذج من الكتابات المستهترة والصادرة من المثقفين المركزيين , تجاه القضايا المصيرية لسكان هامش البلاد , والتي تتعلق بالهجرة و النزوح و مواجهة الموت والتقتيل بآلة النظام , فايداع مسودة حقوق الناس في سلة الحظ و القدر و النصيب , ليس بالرأي السديد الذي يجب ان يصدر ممن يريد ان يقدم نقداً علمياً بناءً للقضية , وهي ذات النزعة السيكلوجية المحركة لحكام المركز تجاه قضايا المهمشين , والتي ادت الى استمرار المأساة زمناً طويلاً دون حل , والسبب هو هذا الشعور الخفي و الاحساس الضمني بعدم الاعتراف بالآخر و بحق هذا الآخر في ان يكون آخراً , وفي ذات سياق المقال أتانا البروف بهذه الجملة : (من ابرز عيوب الكتاب المنهجية انه لم يعتبر العاصمة كاقليم مستقل تجري عليه قسمة الوظائف و الخدمات في حد ذاته) , وانا اقول له ان العاصمة المثلثة لا يمكن النظر اليها بمعزل عن اقاليم السودان الاخرى , ولا يمكن استثنائها من شمول رؤية الكتاب المعالج لازمة اختلال ميزان العدالة في السودان , فبرغم غلبة كثافة سكان العاصمة من ذوي الاصول الكردفانية والدارفورية و الشرقاوية , الا ان ظاهرة الجعللة و الشقشقة و الدنقلة التي اشار اليها الكتاب , تجدها طاغية على وظائف مؤسسات هذه العاصمة , وهذه حقيقة واجب على كل صادق يؤمن بضرورة اعادة هيكلة مؤسسات الدولة , بما يتوافق مع التمييز الايجابي لسكان السودان ان يتبعها , اما المقاربة في صراع السلطة في ولاية الخرطوم بين بدر الدين طه والراحل مجذوب الخليفة , فهي مثل عملية ازاحة علي عثمان و تنصيب بكري حسن صالح , وهي مقاربة تثبت الحقيقة الراسخة في اطروحة جدلية المركز والهامش , وهي السيطرة الجهوية على مفاصل السلطة والوظائف العليا للدولة المركزية , وهو عكس ما اراد ان يوصله الدكتور عبد الله الى وعي القاريء.
اخيراً يستغرب البروفسور عبد الله في مقاله هذا , في لماذا جعل الكتاب الاسود الاقليم كوحدة للقياس في تحليل ازمة الحكم و الادارة في البلاد , واستغرابه هذا ينم عن نظرة تقليدية معتادة من قبل كتاب المركز الذين يعتبر هو واحد منهم تجاه الاقاليم السودانية , فكثير منهم لا يستصحبون تاريخ هذه الاقاليم الغابر , عندما كانت ممالك وسلطنات و دول لها وجود سابق لكينونة و وجود الدولة السودانية الحديثة , فهذه الاقاليم عبارة عن كتل بشرية ذات سبق حضاري وموروث خاص بها في شئون الحكم و الادارة , ومن الصعوبة بمكان ان تتماهى مع نظام مركزي متسلط , فهب ان هذه الاقاليم السودانية كانت تحت مظلة نظام ادراي فدرالي حقيقي , لكانت حينئذ هي المساهم الاكبر في بناء دولة سودانية عظمى في المنطقة , وما تفجر الصراع في كردفان ودارفور والنيل الازرق و شرق السودان , الا لأن هذه الشعوب لها بنيان حضاري يمتاز بالاستقلالية , ويرفض عمليات الادماج القسري في الانظمة و الحكومات المصنوعة بواسطة المستعمر الاوروبي.
دائماً ما نفاجأ نحن ابناء الهامش السوداني , الذين حباهم الله ببصيص ضوء متواضع من الوعي و المعرفة , بفجاجة كتاب ومثقفي المركز في تناولهم لازماتنا التي لا ينظرون اليها , الا من على سطح قشورها , فتأتي تحليلاتهم و تنظيراتهم فطيرة و مبتورة , ولا تلامس جذور هذه الازمات , لقد كان وما يزال الكتاب الاسود بمثابة السفر الذي اهتدى اليه الكثيرون من ابناء الهامش التائهين , فهو الملهم للثوار الذين ما زالوا متمسكين بالطريق الذي اختطه لهم الراحلون والشهداء الاوائل , من امثال يوسف كوة مكي و داؤود يحي بولاد و خليل ابراهيم محمد.

اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock