محمد عثمان جبريل
هناك لحظات في التاريخ يصبح فيها الصمت خيانة، والصبر جبناً، والسكوت على العبث مشاركة فيه. وما يحدث لدارفور اليوم هو أحد تلك اللحظات التي يتراكم فيها الغضب الشعبي وتعلو الأصوات الرافضة للواقع المفروض عليها، بعد سنوات طويلة من التهميش والتلاعب السياسي.
لقد عانى الإقليم من سلسلة من محاولات التمثيل السياسي التي لم تعبّر عن حقيقة المأساة. وبعد رحيل الرموز التي حملت القضية بصدق، ظهرت فئات استغلت اسم دارفور كجسر إلى مكاسب شخصية. هذا الانفصال بين واقع الناس وبين من ادّعوا تمثيلهم جعل كثيرين يشعرون بأن قضيتهم تُدار في غرف مغلقة لا تعرف شيئاً عن حجم الألم المتراكم في المخيمات والقرى المحروقة.
وحتى اتفاقية جوبا، التي هلّل لها كثيرون في البداية، اتضح لاحقاً أنها محاصصة سياسيّة واسعة لم تلامس جذور المأساة. بقيت المخيمات كما هي، وبقي الخوف كما هو، فيما ظهرت طبقة جديدة من المنتفعين.
ومع تطور الأحداث، اتضح أن الصراع الذي خاضه الجيش والجنجويد، والتحقت به لاحقاً مجموعات مسلّحة أخرى، لم يكن صراع سلطة فقط كما بدا على السطح. فقد كشفت الوقائع طوال السنوات الماضية أن جزءاً من هذا الصراع ارتبط بمحاولات تغيير ديمغرافي واستيطان، وهي حقيقة لا يعرفها كثير من الناس أو لا يتم التطرق إليها علناً، رغم أن إدراكها يغيّر فهم المشهد بالكامل.
فمعرفة طبيعة هذه المشاريع تعيد صياغة الخطاب العام، وتفرض قراءة مختلفة لطبيعة التهديد، ولآليات التعامل مع الواقع، ولما تعنيه حماية الأرض والهوية في سياق صراع معقّد وممتد.
إن إدراك هذه الحقائق العميقة لا يغيّر فقط طريقة النظر إلى ما جرى، بل يغيّر أيضاً مفهوم المسؤولية التاريخية تجاه هذا الإقليم وما يواجهه. إذ إن فهم جذور الصراع يسمح بتشخيص المشكلة من أساسها، بدلاً من الاكتفاء بمعالجة نتائجها أو الاكتفاء بتفسيرات سطحية تتجاهل ما هو أخطر وأعمق.
لقد أصبح واضحاً أن المرحلة المقبلة تحتاج إلى رؤية أوسع من الحسابات السياسية الضيقة، وإلى تفكير جديد يتجاوز الخطابات التقليدية. فدارفور اليوم أمام مفترق طرق تاريخي، لا يمكن فهمه أو التعامل معه دون قراءة دقيقة لطبيعة التحديات التي رافقت الإقليم لعقود، ودون فهم عمق المحاولات التي استهدفت تركيبتها الديمغرافية والاجتماعية.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، تنمو الدعوات الشعبية التي تؤكد أن مستقبل الإقليم لا يمكن أن يُحدد عبر صفقات فوقية، أو من خلال مجموعات لا ترتبط بواقع الناس الحقيقي. إن ما شهده الإقليم من ألم وجراح وخسائر يفرض إعادة التفكير جذرياً في قضايا الأرض والهوية والتمثيل السياسي، وفي كيفية صون حقوق السكان ضمن مستقبل سياسي واضح وعادل.
دارفور ليست ورقة تفاوضية، ولا رقماً في محاصصة سياسية، بل قضية شعب يريد معنى للعدالة وكرامة تحفظ وجوده، وتاريخاً يروى بصدق، ومستقبلاً لا يكون فيه الإنسان مجرد تفصيل في أجندة الآخرين.