مقالات وآراء

المواطنة المؤقتة فى السودان ملكية الارض كالية استغلال واضطهاد

الجزء الثانى
بقلم عثمان نواى

أزمةالكنابي: معضلات امتلاك الأرض وحقوق المواطنة

مشروع الجزيرة وتغيير المجتمع السوداني : ان مشروع الجزيرة الذي تمت إقامته في 1925 كان في الأصل مبني على أساس إقامة زراعة إنتاجية في السودان ذات بعد اجتماعي اقتصادي هدف الي تحويل المجتمعات المستقرة في مناطق وسط السودان إلى مجتمعات زراعية إنتاجية منظمة. حيث أن تغيير نمط حياة الناس وتحويلهم الي مزارعين منتجين كان احد أهداف الإنجليز من إقامة المشروع. تقول الباحثة فيكتوريا بارنيل : ( ان مشروع الجزيرة يمثل محاولة، ليس فقط لإعادة صياغة المجتمع السوداني، ولكن لخلق مجتمع سوداني علي النسق الاستعماري (الكولونيالي) ; اي مجتمع متجانس من الفلاحين الذين يعملون بجد وانضباط.) ولذلك كان المشروع هو حاضنة تجريبية لنقل المجتمعات في وسط السودان الي أساليب إنتاج جديدة اقرب إلي الغرب والي قيم عمل دقيقة مربوطة بجداول زمنية معينة للزراعة والحصاد والري. ولذلك قال الباحث البريطاني بيتر ماكلوجين (الي حيث تذهب الجزيرة.. كذلك يذهب السودان) في إشارة الي عملية التغيير التي كانت تجرى عبر قيام المشروع في نمط الحياة في البلاد. في داخل هذه العملية كانت عملية تقسيم الأرض لها دور أساسي في محاولة الإنجليز للقيام بنقل المنطقة الي الدخول الي الإنتاج الرأسمالي ولكن دون الدخول في أزمة مع ملاك الأرض الأصليين. ولذلك كان نظام الإيجار للأرض من ملاكها الأصليين هو النظام الأكثر قدرة على تجنيب الحكومة البريطانية اي نزاع على الأرض حين قام المشروع. حسب قانون أراضي الجزيرة لعام 1921 فإن الأرض التي أقيم فيها المشروع تم الاعتراف نوعا ما بأنها ملكية للسكان المقيمين هناك، ومن ثم تم ايجارها من قبل الحكومة وإعادة توزيعها في شكل مزارع أو حواشات مساحة الواحدة 30 فدان. عملية الاستيلاء علي الارض هذه تمت بشكل سلمي لكنها لم تمر دون امتعاض حيث تقول فيكتوريا بارنيل أن أحد الشيوخ المحليين قال ممتعضا من انتقاص ملكيته ومتحسرا علي مساواته بعبيده نسبة للمساحة الصغيرة التي سيمتلكها بسبب المشروع قال الشيخ من المنطقة ( الشيوخ سيصبحوا بلا قيمة ، المفتشين سيصبحوا ملوك البلاد.. انا الان امتلك القدرة علي التحكم في مناطق واسعة من الأراضي المطرية لكن تحت المشروع الجديد سامتلك 30 فدان فقط مثل العبد الذى أملكه.) هذه الإشارة التي هي منقولة عن مذكرات المفتش الإنجليزى المكلف بأخبار السكان المحليين وقتها بقيام المشروع، تعكس الظروف التي بني فيها المشروع اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. حيث أن سلطات الشيوخ سيتم تقليصها وأنهم سيتم بشكل ما مساواتهم بمن يملكون من عبيد في إشارة الي مدى الإهانة التي يشعرون بها. لكن هنا أيضا لفتة هامة إلى حقيقة أن هذا المجتمع كان فيه بعض ملاك الرقيق كما أنه أيضا كان لا يعشق كثيرا العمل اليدوي والحدود والنظم التي كان يريد الإنجليز فرضها عليهم. إذ يواصل ذات الشيخ المذكور من قبل بارنيل تذمره من الوضعية الجديدة بقوله ( نحن نكره هذه الخطوط المستقيمة، نحن نفضل أن نجوع مرة كل عدة أعوام، مع احتفاظنا بحرية التنقل والرعي بماشيتنا بدون قيود، علي أن تكون بطوننا ممتلئة ولكننا مجبرين علي دفع غرامة إذا خرجنا عن هذه المربعات البشعة.). تجادل بارنيل أن مشروع الجزيرة كان ينظر إليه من قبل السودانيون كنظام جديد ليس فقط من ناحية اقتصادية بل ” كنظام اقتصادي واجتماعي جديد بالكامل”. وهذا النظام الجديد اصطدم في أوقات كثيرة بالنظام القديم السائد للعلاقات الاجتماعية وعلاقات الإنتاج والملكية. حيث أن عمليات الزراعة المعقدة تطلبت اللجوء إلى العمل المأجور لأن الأسر لم تكن قادرة علي القيام بكل العمليات بنفسها. ” ولذلك ظلت الإدارة – للمشروع – تمنح المزارعين قروضا معينة لتمكينهم من مقابلة نفقات العمل المأجور. وهذا ما شجع علي قيام الملكيات الكبيرة وعلي خلق طبقة عمال زراعيين.” (تيسير محمد علي ،1994) ونتيحة لنشاة هذه الملكيات الكبيرة نشأت في مشروع الجزيرة أزمة العمال الزراعيين وسكان الكنابي، التي هي انعكاس لهذا التصادم بين البعد التاريخي الاجتماعي للمشروع والظروف التي فرضها قيامه من حاجة إلي العمالة ووفود سكان جدد الي المنطقة وتقاطعات أزمة ملكية الأرض القديمة مع المطالبات للعمال الزراعيين كوافدين بسبب الحاجة إليهم في المشروع بأن يمتلكون هم أيضا أرضا، مما أدي إلي نزاعات وعنف وعمليات تمييز اجتماعي واقتصادي ممنهج لا تنفصل عن خلفية قيام المشروع نفسه.

خلفية تاريخية اجتماعية حول الكنابي وسكانها
ان ازمة الكنابى والهجمات التى شهدتها , والتى اقل ما توصف بها انها عنصرية , والاعتداء على هؤلاء المواطنين السودانين تستوجب التوقف بجدية فى مظهر تكرر فى هذه التجمعات السكانية منذ وقت طويل. وإحدى المراجع الهامة حول خلفية وجود العمال الزراعيين في غرب السودان وغرب في أفريقيا في مشروع الجزيرة ورقة بعنوان ( التنمية الاقتصادية وارث الرق فى جمهورية السودان) والتى كتبت فى مطلع ستينيات القرن . وعنوان الورقة نفسه هو فى الحقيقة محور تحليل لكثير, ان لم يكن معظم , ازمات السودان الراهنة والتاريخية. حيث انه من المعروف ان لازمة الكنابى وسكانها بعدا اجتماعيا ثقافيا مرتبطا بشكل مباشر بممارسات التمييز والاستعلاء الثقافى والاثنى العنصري. وفي إطار موضوع الورقة يعد مشروع الجزيرة وسكان الكنابي من الأمثلة الحية على النزاعات التي تنتج في مناطق مختلفة في السودان بسبب ملكية الأرض وعلاقات الانتاج المعقدة المتعلقة بالعمليات الزراعية المرتبطة أيضا بمن يمتلك الأرض وبالتالي من يمتلك ريعها. وفي مثال الكنابي فإن المشهد يحمل طابعا معقدا له خلفية تاريخية مركبة نستعرض جوانبها وتأثيراتها المتشابكة في السطور التالية.
ان سكان الكنابى هم بالاصل العمال الزراعيين القادمين من غرب السودان وخاصة دارفور وكردفان وامتداد السودان القديم غربا فى الدول المجاورة التى كان سكانها يقومون بهجرات مستمرة الى السودان عبر القرون واصبحوا مكونا رئيسيا من الشعوب السودانية عبر التاريخ. على المستوى الاقتصادى فان مشروع الجزيرة كان هو الرافعة الاقتصادية للتنمية فى السودان , والذى يعول عليه ليس فقط فى احداث طفرة اقتصادية بل ايضا فى تشكيل علاقات اجتماعية جديدة مبنية على المساواة فى الحقوق والمواطنة وعلاقات العمل المتساوية والمشاركة فى التنمية بشكل منفتح لكل مكونات السودان. “ويقدر عدد الكنابى بحوالى 1400 بينما بلغ عدد سكانها ما لا يقل عن 2 مليون نسمة فقط فى مشروع الجزيرة”. (محمد احمد مهلة, 2018) .
وعند العودة الى خلفية تاريخية عن ازمة الكنابى , نجد انه عند انشاء مشروع الجزيرة فى عام 1925 ومن بعده مشروع المناقل وغيرها من المشاريع التى كان يهدف من خلالها المستعمر الى احداث تنمية والاستفادة من موارد السودان الزراعية الضخمة, كان هناك ازمة حادة فى اليد العاملة. وكان السبب الرئيسى لهذه الازمة متعلق بحقيقيتين , الاولى هوا ن ثلثى سكان السودان كانوا قد قضوا فى فترة المهدية نتيجة للحروب والمجاعات وغارات الرقيق والامراض. حيث كان عدد مواطنى السودان عند دخول الانجليز اقل من 2 مليون بينما كان عددهم يفوق 8 مليون عند انتهاء الحكم التركى وقبل الثورة المهددية. من جانب اخر فان العمل الزراعى فى شمال ووسط السودان بشكل عام كان يقوم به الرقيق , وعندما بدات عملية تحرير الرقيق فى مطلع القرن العشرين , بدا المحررون العمل فى الجيش وانتقل كثير منهم الى المدن لبناء السكك الحديدية او المبانى الحكومية التى بدا ينشئها الانجليز , وبالتالى لم يكن هناك وفرة من الايدى العاملة فى مناطق الزراعة وسط وشمال البلاد. ولهذا عندما تم انشاء مشروع الجزيرة فان ازمة العمالة كانت عائقا حقيقيا لتطوره. ولذلك اتت اعداد كبيرة من العمال الزراعيين للعمل فى المشروع من غرب السودان الممتد. ولكن هذه العمالة لم تعطى ابدا المكانة الاجتماعية والاقتصادية التى تستحقها ولم تجد رغم دورها الهام فى سد فجوة العمالة واعتماد المشروع عليها ,الوضعية التى تستحقها. ويوثق الباحث بيتر ماكلوجين لدور العمال من غرب السودان قائلا:” ان هؤلاء القادمين من الغرب هم العمال الاكثر فعالية والذين يعتمد عليهم معظم العمل باجر فى السودان بشكل عام . وعلى الرغم من ان اعدادهم اقل من ربع السكان فى الجزيرة لكن عملهم يساوى نصف الانتاجية فى المشروع.” لكن هذا الدور الهام لعمال الجزيرة من غرب السودان لم يحصل ابدا على التقدير المناسب.
ازمة الكنابى وابعادها
تعرض سكان الكنابى من العمال الزراعيين لاشكال من التمييز والقهر الاجتماعى والاقتصادى نجد تفاصيلها فى بيان منشور لمؤتمر الكنابى عام 2013 , والذى وضح المشكلات الرئيسية التى يعانى منها سكان الكنابى , وفصل البيان هذه المشكلات فى البنود الاتية:
– منع توطين سكان الكنابي في الوسط .
ـ القهر والتهميش .
ـ التعسف والمحسوبية والمحاباة في الخدمة المدنية.
ـ استبعادهم من المشاركة السياسية ومراكز صنع القرار.
ـ الاستعلائية والنظرة الدونية الممنهجة من قبل الحكومات.
ـ نشر ثقافة الكراهية لسكان الكنابي داخل مؤسسات ودواليب الدولة .
ـ التعتيم الاعلامي لمشكلات الكنابي.
ـ وصف سكان الكنابي بأساليب نابيه ومشينة أخلاقياً.
ـ إفتقار الكنابي لأدني مقومات الحياة.
ـ ممارسة الحرق والهدم والتهجير القسري لسكان الكنابي.
ان هذه النقاط المذكورة اعلاه هى عبارة عن وصفة كاملة الدسم للتمييز العنصرى والاثنى والاقتصادى والثقافى والذى تتم ممارسته بشكل ممنهج من قبل الحكومات المتعاقبة ومن قبل المجتمع ايضا. وقد عدد البيان فى نصه وحتى تاريخ نشره فى يونيو 2013 الاعتداءات التالية على الكنابى فى قرى الجزيرة وماجاورها:
– محرقة الشريف يعقوب في العام 1997 والتي راح ضحيتها 29 دارس لعلوم القران الكريم .
ـ التهجير القسري لسكان وادي شعير في العام 1999م .
ـ حرق وتهجير سكان ديم المشايخة بسنار.
ـ حرق قرية العديد بالماطوري.
ـ قتل عدد من الشباب بالعوامرة والظبيان بمحلية المناقل في العام 2009م .
ـ حرق قرية تكلة محمد زين ومنع طلابها من الدراسة في العام 2012م بمحلية جنوب الجزيرة .
ـ حرق وضرب سكان بلومة بالهدي في 2013م .
ـ التهجير القسري لسكان دار السلام ـ الباقير.
ـ هدم ومحاولة تهجير قرية السمير .
ويضاف الى هذه القائمة الحرق الاخير لقرية الافطس فى الجزيرة , و الذى حدث فى ابريل 2018. ولذلك فان البعد الثقافى الاجتماعى اضافة للجانب الاقتصادى يلعب دورا اساسيا فى النظر لهذه الازمة. حيث ان هذه الاعتداءات لها طابع متعلق بشكل مباشر بالتمييز على اساس اثنى , وهى امتداد لعنف اقتصادى وسياسيى طويل الامد مورس ضد مجموعات العمال الزراعيين من غرب السودان فى مشروع الجزيرة وغيرها من المشاريع. حيث ان هؤلاء العمال تم النظر اليهم بدونية وتمييز مرتبط مباشرة بخلفية العمال الاثنية. وهذا التمييز لم يكن منحصرا فى الاعتداء عليهم فى الكنابى فى العقود الاخيرة, بل هى عملية اقصاء ممنهجة من حقوق المواطنة الاساسية لهؤلاء العمال لها جذور تاريخية منذ بداية مشروع الجزيرة وغيرها من المشاريع.

الجذور التاريخية والابعاد الثقافية والاقتصادية لازمة الكنابى
لقد وثق بيتر ماكلوجين لحيثيات الجلسة السابعة للمجلس الاستشارى لشمال السودان المنعقدة فى قصر الحاكم العام فى الخرطوم فى 25 مايو 1947 . حيث قام السيد ماكينتوش المسؤول الادارى عن العمل بتقديم تقرير حول النقص فى العمال الزراعيين والدور الهام والرئيسى الذى يلعبه العمال من غرب السودان فى الانتاج الزراعى فى ذلك الوقت . وفى هذا التقرير علق المسؤول الانجليزى على المداولات التى جرت حول العمال من غرب السودان فى ذلك الاجتماع قائلا:” لقد كان النقاش بالكامل من قبل القادة السودانيين الشماليين يشير بوضوح الى انه من الناحية السياسية, فان القادم من غرب السودان يعتبر مثير للشغب والمتاعب , حامل للامراض وغيره, وانه يجب عدم تشجيع اقامته فى السودان( باعتبارهم حجاج عابرين فقط). ولكنهم اتفقوا على انه , اى القادم من الغرب, لا يمكن ابدا الاستغناء عنه من الناحية الاقتصادية . “ وفى مواصلة لملاحظات السيد ماكينتوش حول تلك المداولات قال مضيفا :” ومن المثير للاهتمام ان نلاحظ ان احد اكثر القادة قدرة , مكى عباس , والذى كان رئيسا لمجلس ادارة مشروع الجزيرة كان اكثر المتحدثين مناهضة للقادمين من غرب السودان. وحتى الباحث السودانى فى علم الاجتماع والذى يدرس القادمين من غرب السودان (حسون) يميل الى وضع حذائه فى القدم الخطأ. “ ان سخرية المسؤول الانجليزى من مواقف القادة الشماليين انما توضح انعدام قدرة اولئك القادة على تجاوز تحيزاتهم الاثنية والسياسية حتى من اجل الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية. ويؤكد ماكلوجين على وجود تحيز وتمييز ممنهج ضد القادمين من غرب السودان بشكل عام فى مشروع الجزيرة ويؤكد على وجود تحيز اثنى مناهض لهم من قبل ما يسميهم بالشماليين هناك حيث يقول:” على الرغم من الادراك لحقيقة انه من دون ان يقوم العمال القادمين من غرب السودان بمهام معينة فانه لن يكون هناك قطن ليتم تصديره , الا ان الاستياء والضغينة ضد هؤلاء القادمين من غرب السودان قد وصل الى نقطة منعهم من ان يصبحوا من مستاجرى اراضى المشروع منذ الخمسينات. فبينما لا يزال هناك بينهم القليل من المستأجرين لكن النسبة من القادمين من الغرب الذين يمتلكون اراضى مؤجرة قد تناقص كثيرا , حيث ان المؤجرين الجدد هم من الشماليين. “ وقد كتب هذه الملاحظة فى مطلع الستينيات وقد بدات عمليات توسع الزراعة فى المناقل وفى مشاريع اخرى فى القضارف وغيرها.
ان هذه الضغينة التى يتحدث عنها ماكلوجين لها خلفيتها المرتبطة بتاريخ الرق فى السودان , حيث يعتقد بعض اهل السودان المركزى النيلي ان هؤلاء العمال من غرب السودان , ونسبة لخلفيتهم الاثنية الافريقية انما هم قادمون من مناطق ومن اثنيات ارتبطت فى ذهنية الشمال المركزي بمناطق جلب الرقيق. حيث كان هناك فاصل جغرافى اثنى واضح عبر اكثر من خمس قرون بين الشمال والوسط النيلى الذى يتاجر ويستخدم الرقيق, وبين غرب وجنوب السودان الذى يجلب منه الرقيق. ولذلك يكتب ماكلوجين قائلا :” مع استمرار العوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية و الاجتماعية التى تحيط وتدعم نظام الاسترقاق والخدمة فانه لا يمكن الافتراض ان هذه الاشكال من الخدمة الجبرية قد انتهت بشكل كامل. حيث ان انماط الحياة الاقتصادية والدينية والثقافية لا تزال تشبه ما كان عليه الوضع قبل ستين عاما. “ ( اى عند دخول الانجليز السودان حسب الورقة المنشورة فى ستينيات القرن الماضى) .
ان ما تحدث عنه بيان مؤتمر الكنابى فى العام 2013 مازال يؤكد على ان استمرار عقلية ملاك الرقيق هو المحرك لعمليات التمييز والاعتداءات ضد سكان الكنابى فى الجزيرة ,وغيرهم من مستوطنى الوسط المركزى من غرب السودان وجنوبه . حيث ان العقلية الجمعية لسكان المركز والوسط لازالت وبعد اكثر من مائة عام على تحرير الرقيق رسميا بدخول الانجليز السودان, لا زالت تلك العقلية اسيرة لهذا التاريخ وخطوط التمييز العرقى والاثنى المرتبطة به . ولازالت اسيرة لعلاقات الانتاج المرتبطة بممارسة الاسترقاق والتمييز الاثنى والاستغلال الاقتصادى على القادمين من غرب وجنوب السودان , وان لم يكونوا رقيقا , بل عمالا ومواطنين لهم حقوق من المفترض ان تكون مساوية لسواهم من ابناء المركز الاثنى والسياسيى. ولكن هذه الذهنية المنحدرة من ثقافة ممارسة الرق هى المسيطرة على علاقات العمل والانتاج فى المركز حتى وقتنا الحاضر, كما يقول ماكلوجين فان :” ان كلمة ( عبد- رقيق) تستخدم بحرية وقد جردت فقط من دلالتها الضمنية المرتبطة بالملكية, حيث ان مجرد دفع الاجر لا يعنى بذاته تغيير العلاقات الاجتماعية. “
ان هذا التحليل العميق لماكلوجين يوضح ان التراتبية الاجتماعية , السياسية والاقتصادية فى المجتمع السودانى لاترتبط بالمواطنة , او الكفاءة او القدرة على العمل والانتاج, بل ترتبط بشكل مباشر بالخلفية الاثنية والانتماء الجغرافى. حيث ان العمال الزراعيين فى الكنابى , اضافة الى اولئك المقيمين فى اطراف المدن فى كل السودان وخاصة فى الخرطوم حتى اطلق على مناطقهم مسمى ( الحزام الاسود), فهم جميعا رغم انه تربطهم علاقة عمل بمخدميهم من سكان المركز , الا ان النظرة اليهم لا تنحصر فى علاقة الانتاج المعروفة بين العامل وبين صاحب العمل, بل انها علاقة تحمل فى طياتها احكام عنصرية مرتبطة بخلفية ممارسة الرق.
ان الاحتقار والوصمة الاجتماعية المرتبطة باداء الاعمال اليدوية المرتبطة بالثقافة العربية الرعوية, جعلت المجتمع فى شمال ووسط السودان ينحو بشكل متوسع لامتلاك العبيد. وفى نفس الوقت اسهم ايضا فى تشكيل الصورة الذهنية عن العبيد , التى اصبحت مرتبطة ايضا بنوع العمل الذى يتم اداؤه. فهذه الوصمة المتعلقة باداء العمل اليدوى ارتبطت ايضا بوصمة العبودية, واصبحت الاعمال الشاقة والتى تتطلب الجهد لا يقوم بها سوى العبيد. هذا التقسيم الاجتماعى الطبقى والاقتصادى الانتاجى, امتد الى يومنا الحاضر حيث لا زال العمل اليدوى الشاق مرتبطا بالمجتمعات التى تصنف كمجتمعات للعبيد. هذه الاعمال اصبحت لا تتم تأديتها الا بواسطة من يعتبرون عبيدا, ولا يمكن الا لمن هم مصنفين ” كعبيد” اداءها. وقد استتبع هذا التصنيف للعمل تصنيفا مرتبطا بالاثنيات والمناطق الجغرافية التى كان يجلب منها العبيد تاريخيا, مثل الجنوب وجبال النوبة, ودارفور وغرب افريقيا. والذين استمر الشماليين النيليين يطلقون عليهم لفظ عبيد , لابعاد متداخلة من ضمنها نوع الاعمال التى يقومون بها حتى فى العصر الحديث. مثال ذلك الاعمال ذات الطابع البدنى كاعمال البناء والمناولة والاعمال الزراعية الشاقة وغيرها. وبالتالى كان لامتلاك الرقيق فى شمال السودان اثره الهام فى رسم خطوط فاصلة بين المجتمعات السودانية بناءا على علاقات العمل والانتاج. هذا اضافة الى تاثير الصورة الذهنية المشكلة عن الرقيق ونوع عملهم , فى تكوين المخيلة الشمالية العربية الانتماء لصورة السيد الذى ينعم بالراحة, فى مقابل العبد الذى يعمل تحت الشمس ويقوم بالاعمال اليدوية والمعتمدة على القوة البدنية ( الكاتب,2017).

أزمة سكان الكنابي وقضية ملكية الأرض
ومن الجوانب الأشد أهمية في مسألة الكنابي والمشكلات التي تنشأ بين سكانها وبين بعض سكان الجزيرة خاصة في وقتنا الحاضر هي أزمة تمليك الأرض. وكما ذكرنا أعلاه فإن قوانين الأراضي هي في صف ومحاباة مجموعات اثنية معينة لها صلاة وثيقة بالسلطة وقادرة دوما علي استخدامها لصالحها. ولذلك نجد أن البعد الهام في مسألة حرق الكنابي مثلا او محاولات تهجير سكانها منها، إضافة إلي عدد كبير من القضايا المرفوعة ضد سكان بعض الكنابي رغم امتلاكهم لأراضي والعمليات الممنهجة لطردهم منها، كل هذا يقع في إطار العلاقات المعقدة للإنتاج واختلاط شبكات السلطة والثروة وامتيازات المجموعات المهيمنة على السلطة. إذ نجد أنه رغم أن بعض أهل الكنابي قد تخلوا عن المحاولة للضغط على أجهزة الدولة لاعطائهم حقوقهم وقاموا بشراء أراضي لبناء قراهم بأموالهم الخاصة الا ان هذه القرى أيضا تتعرض للهجوم ومحاولات الطرد لأصحابها.
ذكر الأستاذ جعفر محمدين الناشط في الدفاع عن قضايا الكنابي في ندوة أقيمت حول القضية في شهر مايو 2018 بالخرطوم، أن هناك عدد كبير من الانتهاكات المستمرة التي يواجهها أهل الكتابي حاليا. من ضمنها محاولات ترحيل كنبو السمير في محلية المناقل والذي كان أهله قد اشتروا الأرض منذ السبعينات. ولكن نسبة لأن قيمة الأرض ارتفعت بعد إقامة مشروع المدينة المحورية، التى يمتلكها مستثمر سوداني معروف. فإن الحكومة الان قامت بنزع الأرض وتحاول ترحيل السكان وبالفعل قامت ببيع الأرض لمستمثمرين سودانيين . هناك أيضا مأساة كنبو انبسطنا جنوب الجزيرة الذي اعترض أهالي القرية التي تفصلهم عنه شارع فقط لأن الكتبو قريب من الزلط، في محاولة أيضا لاستعادة السيطرة علي الارض من سكان الكنابي باعتبار ان قيمتها كبيرة لقربها من الشارع . هذه الأحداث لا تنفصل عن عمليات الترحيل القسرى التي من بينها كان قبل سنوات حيث تم ترحيل كنبو دار السلام الذي تم بيع الأرض التي سكن فيها أهل الكنبو منذ 1964 الي المستثمر المصرى أحمد بهجت، وتم نقل السكان الي منطقة قرب المصانع في الباقير لا تصلح للسكن الصحي الأدمي. مما عرض السكان للأمراض والتلوث. والنزاعات في المحاكم جارية في خصوص هذه القضايا وغيرها. وهناك أيضا ما سمي ب (مشروع السكن الاضطراري) والذي كان محاولة في 2005 لحل أزمة الكنابي. واسم المشروع له دلالات هامة تؤكد على النظرة التي تعتمدها الدولة تجاه سكان الكنابي، وانهم ربما سكان اضطراريون وليسوا أصحاب حقوق مواطنة كاملة في المنطقة. هذا النهج تأكد بعد أن تحول المشروع الي عملية جباية للأموال من سكان الكنابي بلغت أكثر من 7 مليار في 2005، اي ما يعادل أكثر من ثلاثة مليون دولار بقيمة الجنيه وقتها. من الإشارات العامة علي الوضع المتأزم وعلي عملية التمييز الممنهج مارواه عديد من اهل الكنابى والنشطاء من عمليات التعسف في منع توصيل الكهرباء والمياه الي الكنابي. حيث قال المدير التنفيذي لمحلية المناقل للمطالبين لتوصيل الكهرباء الي كنبو 115، وبقدر كبير من التعالي والاحتقار قال لهم (من انتم ومن أين اتيتم حتي تطلبوا توصيل الكهرباء الي مساكنكم.) في إنكار تام للحقوق لهؤلاء المواطنين , حيث تم وقف عملية ادخال الكهرباء الي الكنبو منذ عام 2012 الي الان. هذه فقط بعض النماذج علي الاعتداءات الحديثة وليست التاريخية والمعاناة الآنية لسكان الكنابي المهددين دوما بالطرد، والذين يعيشون حالة مواطنة مؤقتة دائمة. ولكن من أهم الأحداث المؤلمة علي المستوي التاريخي ولكن ليس البعيد هو حادثة حرق 25 طالب من حفظة القرآن فى محلية ام القرى، حيث تم حرقهم لأسباب لا تتعلق سوي بانتمائهم الاثني، في حادثة كراهية مؤلمة لا تفسير لها سوي في إطار التمييز والاضطهاد الممنهج ضد سكان الكنابي. في سبتمبر 2011 أيضا كانت هناك حادثة تتخذ شكل عنصرى بامتياز في قرية محمد زين (الجانب) الغربي الذي يسكنه لعمال الزراعيون بينما يسكن أهل القرية في الجانب الشرقي. اشتعلت الأحداث بشكل مأساوي حيث بدأت برفض رئيس اللجنة الشعبية استخراج شهادة سكن لطالب بعد أن نعته (بالعبد) واعتدي عليه، ثم أخذ رهط من القرية واعتدوا علي والد الطالب. وفي النهاية اجمع سكان القرية من الجانب الشرقي وقاموا بالنداء عبر مايكرفونات الجوامع وبدأوا في حرق منازل القرية في ظل وجود الشرطة. ثم في أليوم التالى تم منع الطلاب من الكنبو من دخول المدارس واصبح مئات الطلاب خاصة في المرحلة الثانوية موقوفين من الدراسة لشهور. واضطروا في النهاية إلى الذهاب الي مدارس تبعد عنهم لمسافات طويلة. هذه الأحداث هي عمليات تمييز علي اساس عرقي وأثنى ممنهج لا تختلف ابدا عن ما كان يحدث للسود في امريكا قبل قوانين الحقوق المدنية في الستينات. مثل هذه الأحداث التي تمر في صمت من الإعلام وعدم اهتمام القوى السياسية والنخبوية هو كارثة أخرى. مع العلم ان اهل قرية محمد زين الغربية قاموا في أثناء تلك الفترة بإصدار بيانات واحتجاجات وأوضحوا ملابسات ما جرى لكن لا حياة من تنادي.

هذه الاعتداءات لها طابعها المرتبط باستخدام قوانين الأراضي ومسألة ملكية الأرض كإحدى وسائل الاضطهاد والتمييز ضد السكان من الاثنيات خارج المركز المهمين علي السلطة. هذا اضافة الي طابع الاستغلال والقمع الاقتصادي الذي يقوم علي أسس تميزية أيضا تحول دون تحسين حياة السكان الذين يعتبرهم البعض انهم ليسوا مواطنين أو أنهم لا يملكون حقا أصيلا في امتلاك أرض أو الاستفادة منها وتحقيق مستويات اقتصادية ومعيشية ربما تكون اعلي أحيانا ممن يعتقدون أنهم أصحاب الأرض الأصليين . هذا من جانب. من الجانب الآخر في أن المواطنية أو citizenship بمعناها المتعلق بالحق في حرية الإقامة والتنقل والتملك والعمل وبما في ذلك امتلاك الأرض واستغلالها يتم التضييق والحد منه واستخدام أساليب الترهيب والعنف لكي يتم منع مواطني الكنابي من ممارسة حقوقهم كمواطنين. يحاجج بعض السكان في مناطق الجزيرة وخاصة الذين يحتجون علي امتلاك أهل الكنابي للأراضي وإقامة قرى مستقرة وخدمات مساوية لبقية القرى، يحتجون بأن هؤلاء ليسوا بمواطنين سودانيين. بل نضحت وسائل التواصل الاجتماعي بكثير من التعليقات بعضها من نشطاء حقوقيين وسياسيين يستخدمون ذات الحجة. وهذا أمر مؤسف للغاية. فإن كان بعض سكان الكنابي حديث عهد بالإقامة أو العيش في السودان فهذا لا ينقص ولا يقلل من سودانيتهم. فهم أقاموا في البلاد ما لايقل عن 70 الي 50 عاما على الاقل. ومن المعروف أن الدول التي تراعي حقوق الإنسان تعطي السكان جنسيتها بعد الاقامة لمدة أقل من هذا بكثير. هذا من جانب واما الجانب الأهم هو أنه حتي الذين تم تجنيسهم في ظروف تاريخية معينة فإن مسؤولية ذلك لاتقع علي هؤلاء المواطنين بل تقع علي عاتق الممارسات السياسية المشوهة. فمن المعروف أن حزب الأمة قام بتجنيس العديد من القادمين من دول الجوار الأفريقي في فترة الانتخابات في عام 1958 لكي يكسب الانتخابات في بعض المناطق. وان كانت هذه العملية السياسية التنافسية الغير شريفة سببا في أن يصبح بعض المجموعات الأفريقية حاملين جنسية سودانية فإنه لا ذنب لهم في ذلك، بل هم أيضا مجرد ضحايا لآليات الاستغلال والتمييز التي تحتكرها هذه النخب المهيمنة. حيث أن هؤلاء المجنسين تم استخدام مواطنيتهم تلك بشكل مؤقت لأجل التصويت في الانتخابات، ولكن مصير هؤلاء المواطنين لم يعد ذو قيمة بعد أداء مهمتهم. وبالتالي أصبح هذا احد أشكال المواطنة المؤقتة التي يصبح أصحابها معرضين باستمرار للانتقاص من مواطنيتهم عبر الطرد من مساكنهم أو حرمانهم من امتلاك أراضي يستقرون فيها، ليصبحوا اما في حالة انتقال مستمر أو حالة مستمرة من القلق وانعدام الاحساس بالاستقرار كمواطنين لهم كامل حقوق الأمتلاك والسكن اللائق واستغلال الأرض اقتصاديا والسعي الي تحسين أوضاعهم المعيشية. حيث يعيش المواطن المؤقت في حالة مستمرة من انعدام الشعور بالأمان وعدم القدرة علي استدامة الاستقرار بسبب تعرضه للضغوط او التمييز أو المنع وأحيانا عبر استخدام العنف، من امتلاك مسكن أو مكان عمل أو أرض. وهنا يواجه سكان الكنابي احد أسوأ أشكال المواطنة الموقتة في السودان حيث انه غير مسموح لهم بامتلاك قراهم ويتعرضون لتمييز مستمر في الخدمات المقدمة لهم، في حين أنهم يتعرضون لاعتداءات مستمرة بسبب محاولتهم تحقيق حلمهم في الاستقرار والحصول علي الخدمات والتنمية في داخل المناطق التي عملوا وعاشوا فيها لعقود خاصة في اراضي السودان المركزي النيلي حيث توجد معظم الكنابي في الجزيرة ولكنها منتشرة فى كل المشاريع الزراعية الموجودة في مناطق وسط وشرق السودان ويقطنها ملايين المواطنين الذين يعانون ذات المشكلات لكن، الاعداد الأكبر موجودة في الجزيرة ولذلك هي التي ابرزناها في هذه الورقة.

لقراءة الورقة مكتملة الرابط هنا

مقالات ذات صلة