منوعات

مَكْوايج يحب ميري

طه الخليفة طه

يشبه المكان كومة من الجالوص تم تشكيلها بعجل لتأوي نزوحهم. حوائط قصيرة سّنَن المطر أعاليها فبدت كنصال قديمة. تلتصق علي أسطح الحيطان أعوادٌ صغيرة؛ أجزاءُ من أوراق أب سبعين استعصي هضمها علي بطون الأبقار و حبيبات ذرة عنيدة جميعها تلتصق بإهمال علي الحوائط،. تكفي كشطة ظفر واحدة لإزالة قدر غير قليل من تراب السطح الجاف و الهش . فالبيوت هنا من الطين تجدد مظهرها و تزيد مقاومتها للمطر مسحات الزبالة برائحتها غير المحببة كرائحة الدواء. حوْل الكرتون ينتشر الرملُ و الغبار من كل جانب. عند هطول الأمطار تتحول الحفر التي تُخَلِفها إطارات البصات الكبيرة إلي مسابح من الماء المختلط بالطين. لا يجد الصغار غير هذا الماء الوسخ ليمتعوا أنفسهم سابحين.

المدخل إلي الحي هو محطة 2 في الطريق إلي سوق 6 علي الشارع الرملي الذي ينفث الغبار الكثيف مهدداً جُهدَ النساء الدءوب في التزين. فقط هي الأرقام لتدل علي الأماكن كأن السلطات أرادت تسهيل مهمة الكشّات و أعمال الهدم ، أليس هو الكرتون؟. ولدته انجلينا في هذا المكان بمساعدة قابلة تدربت عند الخواجيات بمستشفي الراهبات.

تشتغل انجلينا بدوامٍ يومي كعاملة نظافة بمدرسة الراهبات الكاثوليك إلي الشرق من وزارة الخارجية، تغادر بيتها صباحاًعلي صوته من الراديو في امدرمان متوعداً بالموت أهلها و كل من تحالف معهم من الشماليين، بالموت و خراب البيوت يتوعدهم بلغة غليظة و عصيّة علي الفهم. تعود و الكلام نفسه يتردد من راديو البص المزدحم. هذا النباح من الراديو كما كان يصفه الناس خلق إيقاعا لخروجها و عودتها؛ إيقاع مسموع يرافقه الغضب من الركّاب علي سائقي البصات الذين يصرون علي تشغيل الراديو في تلك الايام التي أنهكها الترقب. كانت تنزل عند قيادة المنطقة العسكرية الوسطي في باكر صباحات الخرطوم علي شارع المك نمر لتمشي إلي مدرسة الراهبات و تعود بعد نهاية العمل علي نفس الطريق مشياً و في انفها خليط من رائحة التراب و الطباشير لتغالب حر الطريق ، رماده ، سجم عودام السيارات و بقية الأبنية الأنيقة. ليست في ذاكرتها في هذا المشوار من الابتسامات إلا مشاكسات السيدات بيانكا، فلومينا و كامليا بألبستهن البيضاء التي يعلوها (تابارد) رمادي مكويٌ كأقمصة الجند و علي رؤوسهن ربطات الرأس المميزة للراهبات في خدمة الكنيسة الكاثوليكية، و كذلك تحيات المدرسات المملوءة بالحنين.

انجلينا في منتصف العقد الثالث عيناها وادعتان إتخذ سوادهما حدوداً صارمة من بياض العينيين الرائق المضياف. وجهها بلونه الأبنوسي الغني الذي لم ينجح الشقاء و لا الكرتون في سرقة نَورَته المشرقة. في مشوارها بين مدرسة الراهبات و المكان المجاور لقيادة المنطقة العسكرية الوسطي كانت انجلينا تمر كأجمل امرأةٍ حامل ، يعود ذلك الجمال لإتساق الحمل بانتفاخ بطنه مع تفاصيل جسدها المشدود كشجرة دليب باذخة.انجلينا فارعة الطول و بهيجة الملامح.

جاءها المخاض ذات مساء فهُرِعت الجارات يستدعين القابلة. هكذا ولد مكوايج بين خالاته و عماته من نساء الجيران فتيً خرطوميا من أطراف المدينة. أبوه من قبيلة الدينكا و اسمه قلواك انشغل في حروب الجنوب مع جيش المركز فتبددت حياته الأسرية و اضطرت انجلينا للنزوح بحملها مع ببناتهما إلي الخرطوم برفقة أهلها. هكذا ولد مكوايج في غياب والده.

انفراج هموم الحمل و يسر الولادة لم يعكر صفوهما عند (انجلينا) إلا غياب زوجها في دروب الحرب و انقطاع أخباره. كانت تُحس وحشةً في المكان لغياب زوجها الطويل و البعيد.

نشأ مكوايج بأطراف الحاج يوسف الشرقية في كرتون كسلا ، حوله الفقر و الحرمان من كل جانب. منظر البصات الكبيرة بخطوطها العريضة الزرقاء الفاتحة و البيضاء هو المنظر المديني الوحيد الذي لامس براءة نظراته و هو صغير. نشأ و حوله الغبار، عفونة مياه الأمطار في فصل الخريف، حر الصيف اللاهب، برد الشتاء بكتاحاته المعاودة التي لا تفتر، كارو الحمار لنقل الماء برميلين ملتصقين، الأزيار، جركانات الماء،حيث يباع الماء بالجوز جركانتين لثمن واحد ، بائع الماء و حماره يتبدلان و الازيار هي الازيار و كذلك البراميل. في الشارع و هو زقاق ضيق و متعرج بين حوائط الجالوص كان كارو الحمار (الطبلية) و ما يجره من ناس او اغراض مصدراً لأفراحهم الصغيرة و كذلك منظر إنتصاب أعضاء الحمير متدلية و كبيرة. يضحك مكوايج برفقة الصغار كثيراً عندما يشِدُ الحمارُ عضوه إلي أعلي ليلتصق ببطنه و ينزله مهتزاً بحزم. حوارات الأطفال عن مغامراتهم في بحري و الخرطوم كانت أشد ما يخيف انجلينا علي إبنها في هذه الأزقة الضيقة التي لا تسع كل هذا العدد من الصغار الذين سُرٍق مستقبلهم و بدد العذاب أحلام آبائهم لأن الصغار كانوا يخططون همساً للتشرد في شوارع بحري و الخرطوم.

عملت انجلينا جاهدة حتي يكمل مكوايج تعليمه. الكرتون بظلام ليله و تعاساته ، الكشّات ، ضجيج السكاري و الشجارات التي يخرج في أولها السلاح و أحيانا قبل أن تبتديء، كل هذه الأمور لم تلن لها قناة في إصرارها علي إكمال مكوايج لتعليمه . دفعت به إلي اقرب مدرسة في مربعات الحاج يوسف المجاورة ،المكان خطر و لا يحتمل إرساله إلي مدرسة أخري بعيدة. قلقت عليه و خافت من إغراءات الصغار الآخرين من أولاد الكرتون الذين لا يفوتون فرصة لركوب البص إلي الخرطوم أو إلي بحري، ليعودوا بقطع الموز التالف و الأغراض و الألعاب المأخوذة عن مزابل العاصمة ثم يختلقوا الحكاوي عن عوالم بحري و الخرطوم الوردية بمغامراتها الكبيرة في أعين الصغار. تسمع انجلينا أحاديثهم و تخاف أكثر . كلفت انجلينا أختها لترافقه الي المدرسة رائحا و غادٍ. أكمل مدرسة الأساس و انتقلت به البصات إلي أماكن بعيدة ليكمل الثانوي ، إزداد خوفها عليه.

تغير شكل المكان بالكرتون و حوله و لم يتغير شيء في واقع الخدمات البؤس في مكانه لا يبارح و لا يغيب حمار كارو الماء و كارو المواصلات. عندما كان صغيرا بمرحلة الأساس يسأله الأطفال عن بيتهم فيقول “انهنا بيتنا في الكرتون” يضحكون و مكوايج لا يعرف السبب وراء الضحك. يمضي بيومه المدرسي من نجاح إلي نجاح ، كل ما عرفه مكوايج إن الامتحانات سهلة و هو يستطيع إتمامها بيسر فيتنقل من عام إلي عام كطالب متفوق. خافت انجلينا علي ضمير ابنها الديني عندما جاءها يوما لتسمع منه آيات القرآن التي حفظها فهي ضرورية لامتحان الغد ، أخذته إلي جارهم من المساليت فأنجز لها الواجب و طمأنها بالقول” معرفته بالإسلام لن تغير شيئاً من واقع الحال ” . حكت انجلينا لاحد زميلاتها بالمدرسة عن قصة سورة القرآن فقالت لها” ربما إذا ذهبت إلي مدير المدرسة لتقولي لهم إن مكوايج مسيحي سيرفتونه”

خافت فلم تذهب معه إلي المدرسة.أكمل مكوايج مدرسته مغالباً كل الهموم من الطلاب و المدرسين دون أن يزور احد أقربائه المدرسة ليناقش مستواه أو ليسمع رأي استاذ في مشكلة كان مكوايج طرفاً فيها. معرفته للغة العربية جعلته مفيدا جدا لأهل الكرتون فكان يقرأ لهم أوامر سلطات الإسكان و المحلية بالهدم و الإزالة يناقش المسئولين نيابة عنهم إذا وقفت اللغة حاجزا بين أهل الكرتون و السلطات. كان جميع من في كرتون كسلا يعلمون أن الهدم هو ليس الحل فيَتَحزّمون لمقاومة قرارات الهدم و الإزالة لما يعرف عند السلطات البلدية ، الإسكان ، المحلية، المحافظة ، الولاية و السلطة الحاكمة بالسكن العشوائي. معرفة مكوايج اللغة العربية جعلته يعرف لماذا يسمي المكان كرتون كسلا و هو ببساطة لأنه يقع في نهاية شارع كسلا.

أكمل مكوايج المرحلة الثانوية بنجاح باهر، أنوار هذا النجاح ملأت عينَي أمه بالدمع، تلك العينان الجميلتان التي عذبهما خليط الغبار و الطباشير. التحق مكوايج بالجامعة و أكملها ثم تخرج فيها محامياً.

ميري من فتيات دينكا ،تسكن في أحد البيوت غير المكتملة إلي جوار مقابر بري اللاماب أمها زميلة انجلينا و صديقتها. يلتقي مكوايج بميري في كل المناسبات و المواسم، أحيانا يمضي مع أمه إلي زيارة بيت أهلها. اكملت ميري المرحلة الثانوية بمدرسة الراهبات. و أزهر الشباب في محاياها كبدرٍ خجول تغازله الغيوم فيبزغ في المساء مائة مرة.

يتدرب مكوايج هذه الأيام في احد المكاتب بالخرطوم مع احد المحامين الكبار، تطاولت عليه النهارات و المشاوير بين المحاكم بلحظات فراغ ممتدة منتظراً الإجراءات أو المواصلات وحيداً في مشاويره يغالب مدينة لاتنهزم شرورها فتنسحب من أمامه. تتقافز في تلك اللحظات الأسئلة في ذهنه لماذا لم يرتبط بعلاقة صداقة حميمة مع احد الشماليين ممن التقي بهم في المدارس او الجامعة؟

لماذا لم يرتبط بعلاقة حب مع إحدي الفتيات الشماليات.؟

فتجيء قاسية و مؤلمة.

الأمور في ذهنه واضحة ليس فيها لبس أو شكوك الحرب هي الحرب، الاستعلاء هو الاستعلاء ، التهميش هو التهميش ، حائط اللغة و العرق هو نفسه. الأمور واضحة جدابالنسبة له و كل الالتباسات لن تعجز تفكيره و لن تمتحن ذكاءه الوقاد. تذكر مكوايج أن زملاء دراسته من الشماليين لم يكونوا سييء الطباع ، لم يبادروه يوما بأي تعابير أو ممارسات عنصرية و لا حتى حادث عَرَضِي، لا يوجد في ذاكرته شيء من هذا القبيل ، كانوا فقط لا يهتمون، لا يهتمون بقصته أو بقصة أمه التي تملأه بالفخر أو بقصة أبيه الذي غيبته الحروب و هو لا يعرف عنه شيئا لانقطاع اخباره و لا يعرف حتى ملامحه إلا ما يجده في وجه الأعمام و العشيرة فسأل نفسه أليست هذه أمور كبيرة و مهمة جدا؟ كفاح أمه لكفالته مع أخواته و همها ليكمل تعليمه و خروج أبيه محاربا في شأن عام أليست أموراً تسترعي الاهتمام ؟. لكنهم لا يهتمون كانوا لا يهتمون! كان مجرد جنوبي أمامهم هو فقط واحد جنوبي. لا تتم زيارته عند الأفراح و المآتم أو المناسبات الأخرى ، لم يزره احد زملائه أبدا لم يدخل زملاء دراسته بيتهم أبدا !!. فقط كانوا لا يهتمون تقف الأمور معهم في حدود السلام و الأسئلة المكرورة و المجاملات السمجة . كل حواراته التي يضحك فيها بعمق أو يحزن خلالها بأسي كانت تتم في المسافة بين حوش كمبوني و موقف الحاج يوسف فقط في ذلك المكان أو إلي ميدان ابو جنزير برفقة إما أهله أو أقرباء جاءت بهم هجرات النزوح من أولاد و بنات الجنوب.

هكذا اعتصر الألم قلبه جراء عدم الاهتمام . هبّ مكوايج وافقاً و قال بصوت عال ليسمعه فراغ المكان الي جواره: “أنا أحب ميري ، هي ستكون فتاتي التي سأبث إليها أحزاني و هي الفتاة التي سأفرح معها إلي آخر الزمان

مقالات ذات صلة