مقالات وآراء

مطلوب تجنيد جنجويد

ناصف بشير الأمين

حملت صحف الإسبوع المنصرم إعلانا صادرا من قيادة ما يسمى بقوات “الدعم السريع”، تعلن فيه عن حاجتها لتجنيد فنيين عسكريين متخصصين في مختلف انواع الأسلحة وكذلك إداريين مدنيين. لا يعلم البعض، ان أي متقدم للعمل بهذه المليشيات يصير بمجرد إنتمائه اليها جنجويدا، بكل محمولات هذه الإسم، ويشترك بالتالي في تحمل المسؤلية عن كل الجرائم التي إرتكبتها هذه المليشيات. فقوات الدعم السريع ما هو الإ إسم جديد صكته السلطة لذات مليشيات الجنجويد القبلية المعروفة. فقد اقتضت حسابات السلطة وموازناتها الداخلية والخارجية محاولة إجراء عملية غسيل لمليشيات الجنجويد، التي يقودها محمد حمدان حميدتي، وإعادة تقديمها في عبوة جديدة تحت إسم قوات الدعم السريع.

هذه مليشيات ذات تكوين قبلي وجهوي محدد تدين بالولاء لزعماها القبليين، ولا يمكن بحكم تكوينها أن تكون قوة تابعة لأي مؤسسة عامة ذات طبيعة قومية كالجيش. كذلك هناك نسبة من أفراد هذه القوات ينتمون لقبائل غير سودانية وقد جيء بهم من بعض دول الجوار كمرتزقة. بسبب تكوينها القبلي وإشتمالها على عدد من المرتزقة الأجانب، فإن العقيدة القتالية التي تشكل الدافع للقتال لهذه القوات ليس هي حماية تراب الوطن والدفاع عن سيادته ضد العدوان الأجنبي، وإنما تحقيق المكاسب الفردية والقبلية وأعمال السلب والنهب. وبسبب هذا التكوين والعقيدة القتالية تفتقد هذه القوات لأدني درجة من المهنية و تسلك في عملياتها الحربية سلوكيات لا تختلف في شيء عن سلوكيات عصابات النهب المسلح وقطاع الطرق. لذلك فإن اخر شيء يمكن التفكير فيه هو أن تتقيد هذه القوات بقواعد و أعراف الحرب وأحكام القانون الدولي الإنساني.

في سجل هذه المليشيات أعداد لا حصر لها من الإنتهاكات الموثقة لحالات القتل والإغتصاب الجماعية للمدنين العزل وحرق القرى والمزارع ونهب المواشي والممتلكات، التي إرتكبتها هذه بشكل منهجي في درافور، منذ تفجر النزاع في عام 2003م. هذه الإنتهاكات وثقتها المنظمات الدولية والإقليمية كمنظمات الأمم المتحدة، والبعثة المشتركة للأمم المتحدة و الإتحاد الأفريقي، ومنظمات حقوق الإنسان الوطنية والدولية. نتيجة لهذه الإنتهاكات الموثقة اكتسبت هذه المليشيات سمعتها السيئة على مستوى العالم. ودخلت مفردة الجنجويد قواميس لغات الأرض كمرادف للتوحش والبربرية والتعطش لسفك الدماء. وبسبب هذا السجل الإجرامي اصبح رأس النظام وبعض معاونيه مطلوبين لمحكمة الجنايات الدولية، بتهم إرتكاب جرائم الإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور. عندها كان النظام يكذب كعادته وينفي دعمه وتوجيهه لهذه المليشيات، بل وينفي وجود أي صلة تربطه بها. وكان الخطاب الرسمي يزعم انها مليشيات قبلية خارجة عن السيطرة. وأن النظام لا علاقة له بالنزاعات التي كانت تدور بينها وبين حركات المقاومة في دارفور او المدنين . ولكن اتت رياح التطورات السياسية والعسكرية بما لا يشتهي النظام. حالة الإفلاس المالي والإنهار الإقتصادي وشبه الإنهيار العسكري وإنعدام ثقة النظام في مؤسسة الجيش، هذه العوامل شكلت الأسباب الضاغطة التي اجبرت النظام على كشف أوراقه وتحويل هذه المليشيات الى قوة نظامية تحت مسمى قوات الدعم السريع. وقد تم الإعتراف بها كقوة نظامية تتبع لرئاسة الجمهورية بموجب القرار جمهورى رقم ٣٥١ لسنة ٢٠١٦م. نص القرار الرئاسي على: ((تتبع قوات الدعم السريع للسيد رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة اعتبارا من صدور هذا القرار، يتكفل جهاز الأمن والمخابرات الوطني بالمرتبات وكافة الإستحقاقات المالية لكل منسوبي قوات الدعم السريع)).

هذه القوات لم يكن من الممكن أن تتحول الى قوة نظامية لولا وجود شخص جنجويدي مثل البشير على رأس سلطة مثل سلطة الإسلامويين. عقلية الرئيس هي عقلية الجنجويدي الأكبر الذي تصدر كل قراراته ومواقفه عن دافع أوحد هو تأمين وحماية وجوده في السلطة وإستمراره فيها بأي ثمن. فالإسلاميون، ووفقا لفقه التمكين، يعتبرون نظامهم هو نهاية التاريخ السوداني بذات المعنى الذي قصده فوكوياما في مقالته الشهيرة التي تحمل الإسم ذاته. لذلك نجد عند الإسلامويين أن كل عناصر الجغرافيا السياسية السودانية وغيرها من الحقائق الإستراتيجية هي متحولات، دون إستثناء، قابلة للتضحية والتنازل. والثابت الوحيد في عقيدة (التمكين) هو كرسي الخلافة الإسلاموية الذي يجلس عليه البشير ولو بقى معلقا (كمشلعيب) في الهواء. لهذه السبب لم يتردد الإسلامويون في فصل جنوب البلاد حفاظا على خلافتهم الإسلاموية، او التنازل عن أجزاء من البلاد للجيران او بيعها او رهنها للأجانب تحقيقا لذات الغرض. وفي التفسير الشخصي للرئيس البشير لهذا الفقه التمكيني الفاسد، فإن الثابت ونهاية التاريخ هو إستمرار وجوده هو شخصيا في السلطة بأي ثمن. حتى ولو كان هذا الثمن هو تقسيم وهلاك البلاد والعباد و إرتكاب جرائم الإبادة وإستخدام أسلحة الدمار الشامل ضد المواطنين وتجيش الجنجويد وإستخدامهم لقمع وإبادة السودانين الذين ينظر اليهم كمعارضين او خطر محتمل على كرسي خلافته. المعروف أن القوات المسلحة الرسمية هي قوات نظامية قومية التكوين، إحترافية و تتشكل من السودانين دون تميز، كما تنص على ذلك المادة 5 من قانون القوات المسلحة. هذه الشروط الواجب توفرها في القوات المسلحة النظامية لا تتوفر كلها في قوات الجنجويد. فهي عبارة عن مليشيات وليس قوى نظامية وهي قبلية وليس قومية، وهي قوة ليس جميع أفرادها من السودانين وهي تفتقد الحد الأدنى من الإحترافية بحكم تكوينها وتوجهاتها. لكن في الواقع نجد أن عدم توافر شروط القوة المسلحة القومية النظامية الإحترافية في قوات الجنجويد هو بالضبط عين السبب الذي يجعلها القوة المفضلة لدى شخص يفكر بعقلية البشير الجنجويدية.

كما اشرت، واجب القوات القومية المهنية هو حماية تراب البلاد والدفاع عن سيادتها ضد أي عدوان أجنبي. لكن في حالة قوات الجنجويد فإنه لم ولن تكن ضمن مهامها في يوم من الأيام الدفاع عن تراب البلاد ضد العدوان الأجنبي. مهمة هذه المليشيات الحصرية التي ظل يكلفها بها الرئيس البشيرهي قتل وإبادة السودانين وتشريدهم من أراضيهم، وقتال حركات المقاومة في الهامش في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وليس تحرير الأرض السودانية المغتصبة. وهذه الحروب التي تشنها هذه المليشيات هي حروب إبادة تشن بمنطق الأرض المحروقة وتستخدم فيها كل أنواع الأسلحة المحرمة دوليا وترتكب فيها كل صنوف إنتهاكات القانون الدولي الإنساني. وهي تشن من منطلق إثني وقبلي، حيث يتم فيها قتل المدنين العزل على الهوية. وهي ترتكب هذه الجرائم والفظاعات وهي تتمتع بحصانات مطلقة من المسآلة والمحاسبة وفي ظل حالة إفلات تام و دائم من العقاب. لذلك تعمل هذه المليشيات ليل نهار على تمزيق ما تبقى من النسيج الوطني السوداني على أسس إثنية وجهوية، أكثر مما تعمل نيرانها وآلياتها على تمزيق أجساد ضحاياها. ووصلت درجة الحصانة التي تتمتع بها هذه المليشيات القبلية حد أعتقال وتوجه تهم (الخيانة) لكل من قام بمجرد توجيه النقد لها ولممارساتها.

ولأن السلطة المركزية كلها – وليس فقط مليشيات حميدتي – صارت تدار تحت دكتاتورية البشير بمنطق جنجويدي، صارت هذه القوات أيضا يتم عرض خدماتها إقليميا ودوليا لمن هو مستعد للدفع بالعملة الصعبة للرئيس، مثلها قي ذلك مثل شركات الحراسة الدولية او اي قوة مرتزقة أجنبية تحارب في حروب لا يربطها بها رابط غير المال. ويدخل في ذلك صفقة النظام مع الإتحاد الأوروبي المعروف بإسم (عملية الخرطوم – خرطوم بروسس) والقاضية بأن تتولى هذه القوات مهمة حارس البوابة الأوروبية في مواجهة طالبي اللجوء السياسي الأفارقة المساكين الفارين الى سواحل أوروباء. وقد قرأنا مؤخرا تصريحا منسوبا لحميدتي قائد هذه المليشيات يذكر فيه الأتحاد الأوروبي بأنه يعمل بالنيابة عنهم في مطاردة المهاجرين لأوروباء ويطالبهم بالدفع مقابل هذه الخدمات السخية. ويدخل في نفس إطار خدمات شركات الحماية الدولية لمن يدفع إرسال النظام قواته للقتال في عاصفة الحزم في اليمن، في الوقت الذي يحتل الجيران أراضيه. لكن مع ذلك تظل مهمة هذه القوات الرئيسية هي حماية الرئيس وتأمين إستمرار بقاءه في السلطة ومحاربة حركات المقاومة المسلحة. ولما كانت القوى التي تشكل خطرا على بقاء الرئيس وإستمرار نظامه هي جماهير الشعب السوداني المنتفضة والقوى الوطنية المعارضة المدنية والمسلحة (وليس أي قوى أجنبية) فهولاء هم أعداء وأهداف الجنجويد (المشروعة) الذين سيستمرون في قتلهم وإبادتهم الى أن يتمكن أحد الطرفين من القضاء على الآخر. لهذه السبب رأينا أن مهمام هذه المليشيات لا تنحصر في مناطق النزاع المسلح في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، وإنما يتم إستخدام نفس القوات في قتل المتظاهرين العزل، كما حدث في إنتفاضة سبتمبر 2013م. وفي الأونة الأخيرة إزداد إعتماد الرئيس على الجنجويد والأمن في ظل تصدع النظام داخليا وبروز صراعات مراكز القوى داخله وإنعدام ثقة الرئيس في الجيش النظامي الذي اصبح ينظر اليه كواحد من مصادر الخطر الذي يحتمل ان يقود إنقلابا ضد الرئيس، في ظل حالة ضعف النظام والإنسداد السياسي وتصاعد حركة المقاومة الشعبية، وحالة الإنهيار والإفلاس الإقتصادي وتفريط النظام في سيادة البلاد وتمزيق وحدتها.

إن الإعلان الصادر من هذه المليشيات يستهدف أساسا إستقطاب أفراد الجيش السابقين. وهو يهدف الى توسيع هذه المليشيات وتعزيز دورها كجيش قبلي إثني يتوافق تكوينه مع شروط المرحلة الجنجويدية من تطور النظام، ويدين بالولاء للرئيس في شخصه وليس للوطن والدستور. وفي الوقت الذي تتوسع فيه هذه المليشيات القبلية وتخص بالحصانات وتخصص لها الإمتيازات والإمكانات يجري تهميش الجيش لا لشيء الا لعدم ثقة الرئيس و دائرته الضيقة فيه. وذلك بالرغم من التطهير وحملات الأسلمة والحزبنة التي ظل يخضع لها الجيش طوال ال 27 سنة الماضية. لهذه الأسباب فإن الإنتماء لهذه القوات يعني خيانة لشرف الجندية وللمبادي الوطنية المهنية والإحترافية والقومية التي ظل يحافظ عليها تاريخيا الجيش كمؤسسة جمعت كل السودانين دون إستناء. فحماية البلاد والدفاع عنها هي من مهام الجيش وليس المليشيلت. ومن خلال الإنتماء لهذه المليشيات يصبح المنتمي جنجويدا يشترك مع غيره من الجنجويد في تحمل المسؤلية عن كل جرائم القتل والإغتصاب الجماعي ومختلف جرائم الحرب والإبادة التي ارتكبوها ويستمرون في إرتكابها ضد مواطنيهم السودانين.

مقالات ذات صلة