مقالات وآراء

ما بين دكتور حيدر إبراهيم و حسين خوجلي

عبدالعزيز النور

في حالة اعتبرها العديد من المهتمين بالشأن العام السوداني مغايرة تماما لأطروحات المفكر السوداني المعروف الدكتور حيدر إبراهيم علي، حول المشكل السوداني و طبيعته و ما كان يقدمه من حلول وفقا لتحليلاته، إنبرى مؤخرا الدكتور حيدر إبراهيم في تبني خط معاكس لتوجهاته من خلال بعض المقالات التي لا تخفي حالة اهتزاز قلم الكاتب و هو يخطها، و هو ما كان جلي ليس في مضمون او محتوى المقالات المعنية، بل و انما في بنيتها المغايرة بصورة يرتفع لها جبين من يعرف قدرات الكاتب، لكونه لعب دورا كبيرا في تنوير عدد كبير من جيلنا الحالي و خصوصا في قضايا الفكر و السياسة و ارتباطها بالحراك العالمي او قل الحداثي. و لست هنا بصدد الدفاع عن الحركة الشعبية التي كان حالها المحفز الظاهر في تحرك الدكنور حيدر لتبني هكذا موقف، و لا حتى بغرض الدفاع عن جدلية الهامش و المركز و التي أعتقد انها تقدم شرحا ذاتيا بطبيعتها لكل من لديه أستفسار حولها، لما تحتويه من بساطة في الطرح و الاسلوب و لكونها تبنت فلسفة سودانية واقعية خالصة بخلاف الاطروحات السياسية التي تقدم مضامين انسانية نبيلة و لكنها نتاج لواقع مكاني و زماني مختلف كليا عن واقع السودان الحالي.

 

ردة الفعل الاولى لدكتور حيدر ابراهيم حول الصراع داخل الحركة الشعبية خلال مقاله بعنوان “الكفاح العنصري المسلح ضد الحوار و العقلانية”، تعكس حالة شد و جذب عنيفة جدا و إرتدادات شاعرية اربكت الكاتب تماما، و بالتالي احداث اختلال عام في ترتيب الافكار و عدم القدرة على نظم المقال و محتواه رغم الخبرة التي يمتع بها الناظم في سرد و تقديم الافكار، ما جعل النص مفرغا تماما. ففي المقال الاول للكاتب، أخذ المقال شكلا يمكن تصنيف مكونه على اربعة أجزاء رئيسية، و هي؛ أولا: عنوان المقال الوارد أعلاه و الذي لم يتم الإشارة اليه باي شكل من الاشكال في مقدمة او متن المقال أو خاتمته حيث ان من يقرأ عنوان المقال ربما يتوقع بان الكاتب سيوضح الطرفين المشار اليهما فيه، ثانيا: الهجوم على أسلوب و تربية الحركة الاسلامية و أثر ذلك على الآخرين في وقت لم يوضح علاقة ذلك بما يحدث في الحركة الشعبية في معسكري عقار-عرمان من جهة و الحلو من جهة أخرى، و ثالثا: تجربة دكتور حيدر ابراهيم “الإجتماعي” القصيرة جدا مع الحركة الشعبية و التي عنيت ضمنيا كطرف الهامش خلال الهجوم القصير على جدلية الهامش و المركز مقابل الطرف الآخر الذي يرى الكاتب نفسه ممثل له في تعريفه لنفسه، و رابعا: موقف الكاتب المستقل، و رؤيته التي ترفض اطروحات الطرفين، في وقت لم يقدم هذا المستقل اي طرح بديل لجدلية الهامش و المركز حيث بقي الكاتب دهرا من الزمان لا يرى فيها إلاَ و لا ذما، كما انه لم يحدد مواضع اختلالها بالضبط. و لأن الحركة الشعبية معنية بالدفاع عن نفسها من خلال مؤسساتها المعروفة – او حتى من خلال ممثلي الطرفين المشار اليهما “ربما ضمنيا” في عنوان المقال المعني – كما أن جدلية الهامش و المركز ظلت كمنهج تحليلي يقدم شرحا مفصلا عن الاشكال السوداني و ماهيته سواء من خلال مسودتها الاولى او الكتاب الحالي بجانب حضور مؤلف الجدلية الدائم في المنابر المخصصة لذلك، للاجابة على ما يثار حولها (….) ..، لذا ما أود الوقوف عنده هنا، هي الحالة النفسية للإنسان السوداني بغض النظر عن وضعه في المجتمع، و تقلبها المستمر و اثر ذلك في إدامة الازمة السودانية و توهان المواطن العادي في محاولاته لإدراك الخلل كنتاج طبيعي لتقلب المثقف و المفكر السوداني المنوط به تنوير العامة.

 

ربما يرى الكثير من الناس ان حالة الفصام و التخبط التي يعيشها المثقف، الكاتب و المفكر السوداني، حالة ذاتية معزولة تخص الفرد المعني، و لكن في واقع الامر هي ليست كذلك، انها الاساس الذي يشكل سياسات الدولة السودانية لكونها تدار بواسطة نخبة متنافرة من حيث اولوياتها، و هذه النخبة يجمعها وضعها النخبوي بطريقة او باخرى، و يكون إسهماهما مهما صغر أو كبر يتجاوز أولئك الافراد الى الدولة و بالتالي الشعب و العالم حوله. فتجد ان همَ الترابي الاول هو تطبيق شرع الله – الاسلام الذي لا يمكن حتى الآن الفصل بينه و بين الثقافة العربية – في أرض لم يشأ ان وردت سهوا في هذه الشريعة او الاشارة اليها في نصوص و مخطوطات الاسلام، و بالمقابل خصومه في الجيل الاول من الحزب الشيوعي السوداني -على سبيل المثال- الذين لم يختلفوا عنه الا في مرحلة شبابهم و سرعان ما يتطابقون معه ايديولوجيا حالما تقدم بهم العمر كما يلاحظ في تصريحات نقد و الخطيب الذين يولون مسألة تأكيد إسلامهم حالما أتيحت لهم فرصة شعبية بدلا من طرح برامجهم الحقيقية و سياساتهم التي يرونها مناسبة لحل الاشكال السوداني، و آخرها تصريحات السيد يوسف حسين المتحدث باسم الشيوعي السوداني حيث قال في ما معناه “ان الحزب الشيوعي سيسخر المفاهيم الاسلامية التي تحمل قيما إسلامية لخدمة مشروعه”، و بصورة جلية أكثر، يتضح التنافر النخبوي هذا في ان تكون قضية الصادق المهدي الاولى هي الديمقراطية، و قضية أفراد البعث هي الرسالة العربية الخالدة، و للمتابع من مسافة أقرب للدكتور حيدر إبراهيم -و لا يمكن القطع بذلك- سيدرك ان قضيته الاولى هي العلمانية. و لكن من للشعب؟ و ماذا يعني، لهؤلاء، استهداف الدولة للغالبية من الشعب و قتلهم و تغييبهم و تشريدهم و تهجيرهم و معاناتهم؟ أليست عملية تزوير التاريخ السوداني هي نتاج تغافل المعنيين بقول الحقيقة، و اغترابهم بافكار لا تمد للواقع بصلة و تعمد أمثال كتاب جريدة الوان و غيرهم بتصور تاريخ يرضي رغباتهم؟ ما الفرق بين الدكتور حيدر إبراهيم في مقاله هذا و بين حسين خوجلي رئيس جريدة ألوان التي استدل بها دكتور حيدر في تشويش الافكار و خلط المعلومات، مع ان الاخير كان يورد -وللامانة والعدل- ما يجافي محتواه كثيرا الموقف الاخير لحيدر الكاتب و المفكر.

 

في تسعينات القرن الماضي كان حسين خوجلي يردد بنظرة جهوية عنصرية فجة -كما نص لذلك أيضا في المنهج التربوي السوداني- قوله “الناس في أماكن السودان الأخرى يسألوننا لماذا لم نوقف الاستعمار الذي دخل البلاد عن طريقنا، و لكننا نقول لهم ان الاستعمار كان يريد العبيد فما ذنبنا نحن….” ..، مع ان الاستعمار بدأ الاسترقاق و بأبشع صوره حيث توغل السودان. و تأتي المقاربة هنا عندما ينسلخ دكتور حيدر الكاتب و المفكر السوداني العلماني العالمي و العولمي لغرض مناصرة فرد بدافع إثني بدائي حتى و لو كان ذلك على حساب الحقيقة أو حتى على حساب افكاره و توجهاته و مشروعه الذي ظل يعمل لأجله. ليذكر بحالة فصام أخري شبيهة لعضو حالي للجنة المركزية للحزب الشوعي السوداني حيث قال “الصراع السوداني الحالي أفرز واقع مجتمعي واضح، و علي كل فرد البحث عن كومته و الانضمام اليها” أو حالة فصام أخرى لوزير سابق و عضو حالي و قيادي بالحركة الشعبية في قوله “البشير لو مات ستكون هناك كارثة” مع ان الجيش الشعبي -الذي هو جزء منه- يقدم ارتالا من الارواح بصورة يومية في حرب البشير.

قلع أمثال دكتور حيدر إبراهيم ثوبهم العالمي و العولمي و العودة الى البدائية السودانية و التنكر للحقيقة، هو ما يخلق بيئة مناسبة لمن هم على شاكلة حسين خوجلي و جريدته لغرس ما يمكن ان يقسم السودان و شعبه، فاذا صمت دكتور حيدر و قبل الجدلية دون نقدها ما يزيد عن العقد، فهذا يضاهي صمت المثقفين و الاكاديميين الذين تزيوا بالقومية مقابل ترهات المنهج التربوي السودان، سيما ما ورد في كتاب تاريخ السودان التربوي في نسخته لعام ١٩٧٥م، حيث يظهر فيه ان “محمد على باشا توغل إلى مناطق السودان الجنوبية -بني شنقول- لجلب المال و العبيد” في حين ان الحقيقة الكاملة ان الرق شمل مناطق السودان كلها دون إستثناء، و الأغرب من ذلك ان ذات الكتاب حملت صفحاته عن إنشقاق الإتحاد السوداني “تزعَم جناح المعتدلين الزعيم إسماعيل الأزهري بينما تزعَم جناح المتطرفين علي عبداللطيف” دون الإشارة إلى حقيقة ان السودانيين هم من ساهموا في القبض على علي عبداللطيف و أكثر من ذلك ان الطبيب السوداني المسئول قد كتب تقرير طبي كاذب يفيد بان الصحية النفسية لعلي عبداللطيف غير مستقرة و بالتالي الإبقاء عليه حتى بعد قضاء مدة سجنه، ليموت في السجن..!! و غيرها من المغالطات ومحاولة قلب الحقائق او ليَها باستنادات لا تخدم السودان في شئ.

 

و بغض النظر في ان كان الدكتور حيدر ابراهيم محزبا او غير ذلك كما اورد هو في مقاله، فان هذه المواقف النفسية تدعم حالة التشظي و الانقسام التي يعيشها المجتمع، كما تدعم سياسة النظام الحاكم في تقسيم الشعب و الدولة، و هي ذات الافكار التي تشكل سياسات الانظمة التي تتألف من هكذا فصام فردي و جماعي، و بالتالي يتوقف العقل و تتأجج مشاعر من وضعتهم الظروف موضع مسئوليتها، و ترتبك سياسات الدولة كإرتباك دكتور حيدر إبراهيم و اختلاله الاخير، ليكون الناتج محض اوهام و تخاريف و أكاذيب و تكابر، ليكتب تاريخ غير التاريخ، و تبني فكر مغاير للواقع، و تتشكل الغربة النهائية في ان ترى الدولة الرسمية نفسها انها تختلف عن الدولة الشعبية-الواقعية، و ان الواقع غير الواقع، و ان السودان الحالي لا يصلح لأن يكون دولة متجانسة، و تتبلور الرؤية بضرورة تقسيم السودان كهدف نهائي لبناء المثلث العربي-الاسلامي ؛مثلث حمدي؛ على حساب وحدة الدولة الحالية، طالما فشلت الدولة في صناعة الناس و إعادة انتاجهم أو قتلهم جميعا. و لكن لا أعتقد انه سيكون مخرج آمن كما يتوهم هولاء، لأن التنوع السوداني ليس محصورا مناطقيا و إنما بداخل كل أسرة سودانية.

 

المخرج من الوضع السوداني الحالي يتطلب درجة عالية من التحرر وسط الكتاب و المفكرين و المثقفين السودانيين، لدرجة تتجاوز كل المخاوف التي ظلت تبثها السلطة بغرض تقسيم الشارع لخدمة أمد بقاءها. و يجب ان يدرك الكاتب و المثقف السوداني انَ خلق التحالفات الامريكية و الاوروبية و الآسيوية و حتى التكلات في كل من دول شرق و وسط و غرب إفريقيا هو إدراك هذه الشعوب و الدول لعجز كيان الدولة الحالي بصورة منفردة في خدمة رعاياها و لضمان تبادل المنفعة بما يخدم هذه الشعوب و الدول، و ان السودان و شعبه ليس استثناءا من الحراك العالمي بأي حال من الاحوال، و ان بناء دولة سودانية موحدة بشعب متجانس هو أمر ضروري لخروج الناس من حالة الفصام و الخوف و الحرب و الاقتتال، دولة على غرار شعار حزب المؤتمر السوداني “وطن يسع الجميع”، دولة قوامها القيم الإنسانية النبيلة، دولة يكون الولاء لها و الكرامة لشعبها.

 

oudingdung0214@gmail.com

 

مقالات ذات صلة