مقالات وآراء

فشل صناعة النجوم الإعلامية والإبداعية للنظام

صلاح شعيب
صلاح شعيب

ظلت القنوات الإعلامية، والثقافية، تعمل بنشاط دؤوب لصناعة نجوم إسلاميين في مجال الثقافة، والفن، والمسرح، والصحافة، والكتابة، والفضائيات. ولكن بات الفشل هو النتيجة الحتمية لا محالة. فكل هذا المكياج الإسلاموي لصناعة رموز لم ينجح إلى الآن في إقناع النقاد في هذه المجالات بأن هذا الجماعة قد أضافت شيئا ثمينا للتجربة السودانية في مجال الإبداع في مناحيه كافة. فبجانب دورها في توطين بدائل توظيفية للإسلاميين، سعت قنوات الشروق، والنيل الأزرق، وأمدرمان، والخرطوم، وضف القناة المتوقع فيها القومية، والصحف المملوكة للرأسمالية الطفيلية الإسلاموية إلى تحقيق هدفين: تشويه حقائق الواقع في جل مجالات الحياة. وذلك بإكساب ذاتها صفة الاستقلالية في محاولة متذاكية لإقناع المتابع لهذه الموصلات الإعلامية بأنها تتحرى الدقة، وتحقق المصداقية، وتعتمد الحياد، وتوازن فرص التغطية. والهدف الثاني هو تسليط الضوء، بغير حق، على ناشطي الحركة الإسلامية، سواء كانوا كتابا، أو صحافيين، أو عاملين في مجالات إبداعية، على قلتهم، بالمقارنة مع الموالين للنظام، ناهيك عن المقارنة مع مجموع الإعلاميين السودانيين الذين هاجروا، وحققوا نجاحات كبيرة في القنوات، والصحف العربية، وغير العربية.
ضمن هذه الصناعة النجومية وجدنا أن المساحة التي تتاح لمن يسمونهم المفكرين، والأدباء، والإعلاميين الخبراء، والشعراء والشاعرات، الإسلاميين والإسلاميات، للطل على البرامج لا تتناسب مع مواهبهم الفكرية، والأدبية النيئة، وإنتاجهم الضعيف، بالمقارنة مع أندادهم ممن يصنفون ضمن تيارات سياسية أخرى. والإعلاميون الإسلاميون الذين يقدمون البرامج، ويحتكرونها ليسوا هم بأفضل حالا من نواحي قدراتهم المهنية، وجرأتهم في الطرح، وإيمانهم الراسخ بأهمية دور الإعلام الحر في التنوير، وكشف الحقائق للمتلقي، وتمثيل المواطن. فكثيرا ما تحكمهم الأيديولوجية، والموجهات، إذ نرى مقدم البرنامج التلفزيوني المعني، والذي ينبغي أن يضع المسؤول في الكرسي الساخن قد انتابه الخجل، أو الخوف، في توجيه الأسئلة الحيوية إليه، والتي يفترض أنها حاضرة في ذهن الذين يعد البرنامج، أو من يقدمه. بل إن مقدم البرنامج نفسه لا يستطيع مقاطعة ذلك المسؤول الذي يمرح في زمن حلقته عند الخروج عن خط السؤال، وتراه قد استسلم لترهات الضيف دون أن يبدع في اعتراض ثرثرة ضيفه بسؤال آخر.
وتمضي المقابلة علي هذا المنوال بينما تحس بأن الحوار إنما هو تمثيلية لإتاحة الفرصة لذاك المسؤول لتمرير وجهات نظره بدلا من أن يرد على أسئلة أساسية تشغل بال المواطنين الذين يتسمرون أمام الشاشة حتى يدركوا الحقائق، ويحصلوا على المعلومة، وأنى لهم. وفي حال الصحافيين الإسلاميين أيضا تحس، بخلاف الضعف المهني، بأن الحوارات التي يقومون بإجرائها كأنها تتم باتفاق بينهم والشخص المحاور على ما يجب أن يتم تناوله، وما لا يجب. أو أحيانا تحس برودة الحوار الصحفي الذي من خصائصه أنه يحتاج إلى شخص مدرك بأبعاد فنونه، ومتفهم للقضايا، وهموم الجماهير حتى يخرج الحوار شيقا ومثيرا بمعلوماته، وأسئلته الحية، وإجاباته العاصفة. وهناك أيضا حوارات تحس من خلالها أن الصحافي كتب اسئلتها ومنحها للمسؤول، ولاحقا أجاب عليها على راحته ثم أرسل الحوار بمقدمته للصحافي في اليوم الآخر لينشره بحذافيره، ذلك دون أن يعمل فيه قلمه ليحول لغة الرأي إلى لغة صحفية. بل إنك ترى الأخطاء اللغوية، والصياغية، في إجابات المسؤول دون أن ينتبه إليها المسؤولون عن التحرير، والتصحيح.
-2-
إن الاستثمار الإسلاموي في مجال الصحافة، خلافا لدوره في الحط بقيم ودور الإعلام عموما، خلق وهما كبيرا حول فاعلية كثير من الصحافيين، والكتاب، الذين ظنوا أنهم نجوم بعطائها المميز. فعوامل مثل غياب المنافسة الحقيقية، وتوظيف الإعلان، والمحاباة في منح تراخيص الصحف، لعبت دورا في خلق صحافيين، وكتاب إسلاميين، وموالين، عجزوا عن العثور على احترام السواد الأعظم الذين أجبرتهم الظروف على معرفة طبيعة الأشياء في سودان اليوم. فكم من ناشئ صحافي تحول الي مستثمر مليارديري في المجال. وكم من كاتب متواضع إسلاموي تحول إلى صحافي ثم رئيس تحرير، ولكنه بعد فترة قصيرة أغرق صحف المؤتمر الوطني التي رُصِدت لها الملايين من الدولارات في الديون، والفشل، والفساد. وهكذا كان بوار صحيفتي “الأنباء، والرائد” شاهدا على ضعف المهنية.
فالرائد، حسب ديباجتها، تقول قبل إغلاقها “تضم الإدارة العليا للصحيفة نخبة من أميز المفكرين والعلماء، إلى جانب عدد من شخصيات المجتمع المرموقة، تماشياً مع النهج الشامل الذي اختطته الصحيفة في تناولها للشأن السوداني عامةً، ليتواكب ذلك ويظهر جلياً في مختلف تشكيلاتها الإدارية والتحريرية”. الحقيقة أن الصحيفة رغم كل هذا الحشد الذي هو من “أميز المفكرين والعلماء” كما قالت، انتهت إلى الإفلاس ثم اتهامات الفساد التي طالت بعضا من هؤلاء “المفكرين والعلماء وشخصيات المجتمع المرموقة” أنفسهم. وبعض من هؤلاء النفر تعرض للحرب من أفراد من الحزب، ووجد في اللجوء السياسي الي بريطانيا مدخلا للحرية السياسية، والشخصية، وهروبا من جحيم ظلم ذوي القربى.
إن جانبا من مهمة هذه الموصلات الإعلامية يتعلق بترسيخ أوصاف محددة، في ذهن المشاهد، أو المستمع، أو القارئ، لبعض الرموز الإسلاموية، والموالية من شاكلة الخبير الإستراتيجي، أو الخبير الوطني، أو كبير المثقفين، أو الأكاديمي البارع، أو الكاتب البلدوزر، أو المحلل الاستثنائي، أو الكاتب المخضرم لشخص لم يبلغ الثلاثين حتى!. والمخضرم في اللغة هو من عاصر عهدين، وبجانب ذلك فإن معناه أيضا هو من لم يُختن، وربما يصح القول إن هناك أقلاما إنقاذية لم تختن بعد فيما تريد اللحاق بمجد النابغين في المجال. إن كل ذلك المكياج يتم ضمن خطة بارعة لتضخيم الضيوف الذين لا يتبعون إلا للنظام حتى يوحوا للمتابع بأهمية ما يقولون. وهكذا بقي مفروضا على المتلقي لإنتاج الأجهزة الإعلامية الاستماع إلى “خبراء” محددين في الفهم، والظهور. ومن السهل، والحال هكذا، أن تقرأ أربعة حوارات صحفية مطولة في شهر واحد مع بروفيسور ما دون أن تخرج بعمق في التحليل، أو إضافة معرفية، او معلومة جديدة. فالسائل والمسؤول يدوران في هوامش القضايا بخلفية الانغلاق الأيديولوجي بأمل صرف الأنظار عن المشاكل الجوهرية. وللأسف، يقع في هذه المصيدة كثير من القادة المعارضين، وبعض الكتاب، الذين يركزون على نقد سفاسف الأمور هذه، والمقصود بها أصلا إرهاق المعارضة في الانشغال بغير الجوهري.
على أن هناك كثيرا من برامج يقدمها هؤلاء الإسلاميون الذين يقصرون الاستضافة على محللين إسلاميين على شاكلتهم فحسب من الصحافيين والكتاب بشكل يومي لتحقيق هدفين: تمكينهم في دائرة الضوء، ثم تجويد وضعهم ماديا على حساب الإعلاميين المستقلين، أو المنضوين لتيارات سياسية، وأيديولوجية أخرى. وليت هؤلاء المستضافون يستحقون هذه المساحة إذا كانوا قد وصلوا إلى مرحلة متقدمة من المهنية التي تكفل لهم التحليل الخبير الذي يسبر غور القضية محل الطرح. وليتهم يستحقونها إذا كانت هذه القنوات تمارس الشفافية في إتاحة الفرص لأبناء الشعب السوداني من الإعلاميين المقتدرين ليتنافسوا على إبراز مواهبهم. ولكن هيهات، فالأمر لا يعدو إلا أن يكون “زيتنا في بيتنا” مثلما أفصح التوصيف الشعبي. فالشركات الإعلامية يملكها إسلاميون، ويديرها إسلاميون، وغالب المخدمين إسلاميون.
-3-
أما البرامج الحوارية والتفاعلية التي تفتقد مقدمين يمنحون هذه القنوات صفة القومية فإنها فرصة لصناعة “نجوم بيضاء” من الصفر حتى يكونوا مفروضين على المشاهدين. ويمكنك أن تجد ذلك الإعلامي وهو يقدم برنامجين حواريين، واحد في النيل الأزرق، والآخر في قناة الشروق، بينما تجد أن فكرتي البرنامجين تقومان على ثيمة إعلامية واحدة هي استنطاق الضيف بذات الطريقة، وذات الإخراج. وكأنك هنا تحس أن هاتين القناتين المملوكتين لإسلاميين لم تجد شخصا آخر من داخل الحركة الإسلامية حتى يكون هناك عدل وسط الإسلاميين الإعلاميين أنفسهم.
الملاحظ أن هذه الأجهزة الإعلامية قد فشلت بشكل ذريع في خلق أصوت إسلاموية بديلة في مجال الإبداع الشعري، والروائي، والدرامي، والتشكيلي، والغنائي، والنقدي. والأمر كذلك فقد غضت الطرف، بطبيعة الحال، عن الاستعانة بالمبدعين، كما كانت تفعل الإذاعة والتلفزيون من خلال “محطة التلفزيون الأهلية”، و”البرنامج السادس” لاقتراح أفكار برامجية تهتم بالفعل الثقافي كما هو حال القنوات في كل بلد من حولنا. ولعل السبب الأساس في ذلك يعود إلى أن هذا النوع من البرامج الثقافية التي تختلف عما تقدمه هذه القنوات الآن من مادة ثقافية، تحتاج إلى مناخ حر، لا يتقيد بخطوط سلطوية حمراء. ومن شأن هذه البرامج أن تتيح لكل المبدعين في تلك المجالات التعبير عن رؤاهم، وتصوراتهم للقضايا الكونية، والفكرية، والانفتاح على إبداعات مناطق كل السودان بصورة تنافس الأحادية التي تفرضها ما يسمونها البرامج الفكرية والثقافية التي “تكرس” لنمط ثقافي محدد.
إن أكبر دليل على فشل النظام في خلق نجومية معترف بها لمنسوبيه في هذه المجالات التي تفترض الخلق، والابتكار، هو انهزامهم على مستوى الإعلام الحر الذي تتيحه وسائط التواصل الاجتماعي. فليس هناك مقدرة مختبرة لتنافس الإسلاميين على تحقيق نتائج أفضل للفكر، أو الأدب، أو الفنون، أو الرأي الصحفي، وسط هذه الوسائط التي ظلوا يحاربونها كونهم لا يملكون الإمكانية لمنافسة مبدعيها، ذلك برغم أنه لم تتم معاملتهم بالمثل. فكثير من هذه المواقع تنشر مقالاتهم دون أن تجد القبول والنسبة العالية في القراءة. ومن ناحية أخرى فشلت محاولة الإسلاميين، رغم تسخير مال البلاد، في خلق منابر، ومواقع إلكترونية يجذبون بها المتلقين. إن المشكلة الحقيقية التي تواجه الإسلاميين في مسعاهم لإيجاد موطئ قدم في المشاهد الإبداعية، على الدوام، هي نظريتهم المنغلقة التي تحجم أي إمكانية للإبداع، والذي يحتاج إلى تحرر الفرد من السياجات الباهتة، والانفتاح على الاخر، واتخاذ موقف نقدي واضح من كل ما هو سائد. وفوق كل هذه الحاجات مقاومة رجل الأمن في تحديد ما يكتب، وما يقال، وما يروي، وما يرسم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock