مقالات وآراء

عرض لكتاب: “في النزاع السُّوداني: عثرات ومآلات بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق” للدكتور عمر مصطفى شركيان

(في النزاع السُّوداني: عثرات ومآلات بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق) للدكتور عمر مصطفى شركيان
الدكتور قندول إبراهيم قندول
النزاع المسلح في السُّودان هو الأطول والأعنف في القارة الأفريقيَّة؛ إذ امتد لنحو أكثر من خمسة عقود من جملة ستة عقود من عمر استقلاله دون أن يبدو في الأفق ما يشير إلى إيقافه. ولعلَّ لهذا الصراع أسباب ذات جذور تاريخيَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة وعرقيَّة، إلا أنَّ سوء إدارة التنوُّع الذي يتمتَّع ويتميَّز به السُّودان لعب دوراً رئيساً لإنتاج هذه الأزمات. بيد أنَّ إخفاقات كبيرة وخطيرة ارتكبها القائمون بأمر إدارة البلاد منذ فجر الاستقلال. فالحق ليُقال إنَّ عدداً كبيراً من المفكرين السُّودانيين والمهتمين بالشأن السُّوداني قد تناولوا تلك الإخفاقات بشيء من التفصيل، وأهم وثيقة تناولت هذا الجانب تتمثَّل في كتاب “النخبة السُّودانيَّة وإدمان الفشل” للمفكر الأريب الدكتور منصور خالد. أما كتاب “في النزاع السُّوداني: عثرات ومآلات بروتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق” الذي نحن بصدد استعراضه يعد محاولة حقيقيَّة من الدكتور عمر مصطفى شركيان في الغوص في عمق قضيَّة الحرب الجارية الآن في منطقتي جنوب كردفان/جبال النُّوبة والنيل الأزرق بعد الانتخابات العامة التي أجريت في العام 2011م قُبيل انفصال جنوب السُّودان. لقد بذل المؤلف جهداً مقدَّراً، تمحيصاً وتحليلاً لمادة الكتاب، ولأهمية هذا السفر الذي قرأناه رأينا من الضروري استعراضه باختصار تلخيصاً لما جاء فيه.
يحتوي الكتاب على أربعة أقسام في 769 صفحة. فالقسم الرابع يحتوي وحده على ستة فصول وذلك لأهميته، ومنه أيضاً جاء عنوان الكتاب. ففي استهلال الكتاب يجد القاريء الكريم “رؤية تضامن أبناء جبال النُّوبة بالخارج” التي قدَّمها بعض أبناء النُّوبة في عمليَّة مفاوضات السَّلام التي كانت تجرى بين حكومة السُّودان والحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان العام 1998م تحت رعاية منظَّمة الإيقاد. وقد جاوبت هذه الوثيقة على كثير من الأسلئة التي ظلَّت تتردَّد في أذهان الناس يومذاك، مثل “ماذا يريد النُّوبة، وأي سُّودان يبغون؟ ولماذا يفضلون الحل الشامل للمشكل السُّوداني، وما هي الخيارات المطروحة للمضي قدماً في حال إصرار المركز على مواقفه المتشدِّدة في حال عدم إنصاف قضية النُّوبة في إطار السُّودان الموحد”، وكذلك في حال اختيار أهل الجنوب الانفصال وتأسيس دولتهم. فلم تقتصر فاتحة الكتاب على مسألة جبال النُّوبة فحسب، وإنَّما تطرَّقت لقضية شعوب الفونج (النيل الأزرق).
أما القسم الأول والثاني فيتضمَّنان في ثناياهما صوراً من نضالات النُّوبة التاريخيةَّ باستعراض مفصَّل لبطلين عظيمين من أبطال النُّوبة هما: السلطان عجبنا بن أرواجا بن كينقال المعروف اختصاراً ب”السلطان عجبنا”؛ والمعلِّم يوسف كوة مكي. ولقد خصَّ الكاتب السيرة العطرة للسلطان عجبنا ونضاله في أكثر من خمس وثمانين صفحة. ولربما يسأل سائل ماذا كتب الدكتور شركيان في هذه الصفحات ولِمَ؟ تناول الكتاب في هذه الصفحات مولد ونشأة ومقاومة السلطان عجبنا ضد الإنجليز بوصفٍ دقيق وتصويرٍ حيٍ لثورة السلطان عجبنا ومراحل المقاومة المختلفة، وسيرها المكاني: جبل بجبل ثم قرية بقرية من قرى قبيلة “الأما” وما جاورها من قرى النُّوبة الأخرى؛ وموثِّقاً صيرورتها الزمانيَّة يوم بيوم، وساعة بساعة. وفي الوصف إظهار لمهارة السلطان عجبنا العالية في تخطيط العمليات الحربيَّة التكتيكيَّة والإستراتيجيَّة مستفيداً من طبيعة المنطقة الجبليَّة الوعرة والمعرفة التامة بقرى المنطقة وقادتها، وإجادة جنوده القناصة باستهداف الخصم في مقتل بدقة متناهية، مما سبَّب خسائر فادحة في صفوف القوات المهاجمة. وقد أوضح المؤلف أنَّ أهالي النيمانج “الأما” وحلفائهم من القبائل النُّوباويَّة المجاورة قدَّموا دعماً كبيراً لقائدهم العظيم إلى أن تمَّ القبض عليه وصديقه الكجور كلكون؛ ومن ثّمَّ تم إعدامهما شنقاً على الرغم من اعتراض السلطان عجبنا على هذه الطريقة المهينة التي تمَّ بها الإعدام. فبينما هو ورفيقه منقادان إلى حبل المشنقة كان يزأر كالأسد ودعا الملأ الذين احتشدوا حوله بالقول: “أي واحد ما شاف السلطان عجبنا يجي هنا ويشوف الرجال بموتوا كيف”. ولقد عُرف للسلطان قولته المشهورة رداً على سؤال أحد الضباط الإنجليز عما يود قوله قبل تنفيذ العقوبة إذ قال: “لماذا تقتلني شنقاً بالحبل، فإنَّني لست بكلب مسعور، ينبغي أن تطلق عليَّ النار”. على أية حال، تم تنفيذ حكم الإعدام على السلطان عجبنا، وهكذا طويت صفحة ناصعة من النضال البطولي للمواطن السُّوداني. وأما السؤال عن سبب إفراد هذه الصفحات هو أنَّ تاريخ السُّودان لم ينصف السلطان عجبنا بالكتابة المفصَّلة بقدر ما كُتب في هذا السفر، ومثله الفكي علي الميراوي وأبورفاس وآخرين من الرعيل الأول من المناضلين السُّودانيين الوطنيين من جبال النُّوبة. فتاريخ هؤلاء الأبطال لا ينبغي أن يُكتب ويُقرأ فحسب، بل ينبغي أن تتم إعادة إنتاجه بكل تفاصيله في فيلم وثائقي على شاشات دور السينما والتلفاز، وهذا أدنى ما يمكن القيام به لتخليد هؤلاء الفرسان بدلاً عن ذكرهم في هامش صفحات كتب التاريخ من باب “نافلة القول” أي (مما لا حاجة لذكره)!!.
أما البطل الثاني فهو المعلِّم يوسف كوة مكي مفجر ثورة جبال النُّوبة الحديثة. فلفظة “المعلِّم” لم تُطلق جزافاً على يوسف من غير تبصُّر. فقد امتهن يوسف وظيفة التدريس لأكثر من تسع سنوات في المدارس الوسطى والثانوية. وما قام به الدكتور شركيان في كتابه عن المعلِّم يوسف يعتبر بكل المعايير عصارة عقله وتفصيلاً يليق بيوسف تماماً إذ غطاه بعدد ثمانين صفحة. ومثلما هو الحال في كتابة السير الذاتية للعظماء من الرجال، دوَّن الدكتور شركيان ميلاد ونشأة المعلِّم يوسف ودوره في تربية النشء عندما كان معلِّماً، وانخراطه في فضاء العمل السياسي بتحدياته ومآلاته المجهولة لغير ذي فطنة وكياسة وفضل ومروءة. لقد غطى الفصل أيضاً كياسة يوسف وشخصيته الكارزميَّة التي كان لها بعداً قومياً من خلال المشاركة الحقيقيَّة الفاعلة والصادقة المبكرة في تحديد قضايا الوطن بصفة عامة وجبال النُّوبة على وجه الخصوص. إذ أوضح الكاتب كيف اكتسب يوسف مكاناً مرموقاً ومتقدِّماً بقدرته الفائقة في التحليل السليم لمشاكل الوطن والتحديات التي تواجهه وما هي رؤيته في وضع الحلول لها في إطار السُّودان الموحَّد، وكيف أنَّه أشرك النُّوبة الذين معه في اتخاذ القرارات المصيريَّة للنُّوبة في الدارين: “دار الحرب ودار السَّلام” (وكليهما ديار النُّوبة)، بعد أن تحمَّل مسؤولية كل المعاناة التي اشتكى منها المشتكون في السنوات الأولى للحرب. نعم اشتكى الرجال من الإعياء و”العُرى وعدم توفُّر ملح الطعام” فبرزت لهم امرأة قائلة لهم: “إذا كان الأمر يتعلَّق بهاتين النائبتين، فقد كان أسلافنا يروحون ويأتون ويجوبون وديانهم الواسعة عراة، ويأكلون الطعام دون ملح”. إزاء موقف الرجال وترددهم هذا، تصدت نساء وبنات النُّوبة وأبدين رغبتهن الأكيدة في مواصلة النضال وعدم الاستسلام مهما كلفهن ذلك رغم إدراكهن بالمخاطر الجسيمة وعلمهن أنَّهن وأطفالهن من أكثر الفئات تضرراً بإفرازات الحرب السالبة.
لقد حوى هذا القسم أيضاً اللقاءات الصحافية التي أجرتها الصحف العربيَّة مع يوسف، وكذلك ما كتبته الصحف الأجنبيَّة ومنظمات حقوق الإنسان والتي أكدت أنَّ يوسف كان رجلاً حليماً، ومطَّلعاً ومفكِّراً، وقد اتخذ التحرير بجد مدركاً أنَّه (أي التحرير) يتضمَّن ويضمن الحقوق والعدالة والمساواة بين كافة الناس. ولإثبات وإتباع القول بالأفعال يقول المؤلف إنَّ يوسف أسَّس نظام القضاء في مناطق جبال النُّوبة الواقعة تحت إدارته، وكما سمح للمنظمات الحقوقية المستقلة بالوصول إلى المناطق التي كانت تقع تحت قيادته لتوثيق أي انتهاك حقوقي ورفع تقاريرها بذلك الشأن، وأنَّه سيكون مسؤولاً مسؤولية كاملة لأية خروقات حقوقية. ويوثِّق الدكتور شركيان نزاهة يوسف وعلو همته في الشهادة التي أدلى بها المحامي يوهانيس أجاوين قائلاً: “كان يوسف عيِنة نادرة في جميع حركات التحرير الإفريقيَّة. كان دوماً يعالج أي تجاوز لحقوق الإنسان ضد المدنيين، سواء جاء هذا التعدِّي من جندي أو ضابط، فالأمر لديه سيَّان”. ومهما يكن من خلق يوسف السوي تجاه الإنسانية جمعاء، خلص القسم بأنَّ حياة الزعيم يوسف كانت قصيرة، لكنها كانت مليئة وغنية بالتجارب الإنسانيَّة. وفي هذا أوضح الكاتب أنَّ يوسفاً عقد لقاءً مع أحد الصحافيين البريطانيين شارحاً له ما وصل إليه حال النُّوبة، وكذلك كتب رسالة وهو يحتضر إلى كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة حينذاك، معبِّراً عن استيائه لإخفاق منظمة الأمم المتحدة في فك الحصار الحكومي المفروض على النُّوبة ومنعها إيصال المساعدات الإنسانيَّة لهم. وعندما أخذت المنية يوسف في المملكة المتحدة، دُفِن جثمانه في أرض جبال النُّوبة بناءً على رغبته. ولمَ لا؟ فهو خليق ذاك التراب الطاهر، وكما أنَّ هذه الرغبة تثبت – بلا شك – ارتباط النُّوبة الوثيق بأرضهم في حياتهم ومماتهم. بيد أنَّ الاستقبال الرسمي والشعبي لجثمان الفقيد يوسف في أرجاء وفضاء السُّودان كان وفاءً وعرفاناً مِن مَنْ أحبوه من أهله وغيرهم بصدق وعفوية وإخلاص، لأنَّه أشعر الجميع أنَّهم وحدة واحدة. ولقد ضمَّن القسم ملاحق بكلمات تأبين مليئة بمشاعر الحزن والأسى من الشهيد الدكتور جون قرنق، والقائد عبد العزيز آدم الحلو، والدكتور عمر مصطفى شركيان والدكتور أحمد عبد الرحمن سعيد، وقادة الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان في الداخل والخارج، ومن ممثلي الأحزاب السياسيَّة المعارضة لنظام الخرطوم، وآخرين.
وختم المؤلف سيرة يوسف ومواقفه البطولية بدعوة السُّودانيين والإنسانيَّة جمعاء إلى قراءة ثانية وثالثة ورابعة لتاريخ هذا الرجل في أبلغ ما تكون الدعوة حين كتب: “(…) أكتب لكم ما نود إذاعته في الناس لكي ينجلي الحق ويستبين، (…) وليثير في نفوس وأفئدة الناشئين الذين لم يروا يوسفاً عياناً، ولم يستمعوا إليه سماعاً، لأنَّه ألهب في صدر الشباب حمية كانت خامدة؛ وفتح لهم نوافذ من الأمل كانت موصدة، وأيقظهم إلى ما فيهم من شجاعة وعزيمة المواجهة. (…) إنَّ هذ لحق يوسف كان أداؤه علينا لزاماً، وأنَّ تناسيه عقوقاً ونكراناً لحقه”. ونحن نقول ليس من الضروري أن يتفق الناس جميعاً على دور المعلِّم يوسف، ولكن ما خطَّه الدكتور شركيان في حقه – وهذا واجب – يقف شاهداً على ما قدَّمه المعلِّم للوطن بصفة عامة وللنُّوبة على وجه الخصوص إذ ترك بصمات واضحة في حياتهم كشعب يناضل من أجل البقاء والعدالة والمساواة.
ومن بعد، يدلف بنا المؤلف إلى القسم الثالث ليخبرنا عن تاريخ مرض خطير راح ضحيته العديد من المواطنين وهو وباء “الحمى الصفراء” في السُّودان بصفة عامة، وجبال النُّوبة والفونج على وجه الخصوص. ونسبة لخطورة هذا الوباء لم يتردد المؤلف أبداً – كعادته – في توجيه الدعوة إلى الحكومات والمنظمات العالمية والدوليَّة لوضع الأسس الكفيلة للتعامل مع المرض في مراحله المختلفة: مثل تحسين وسائل اكتشافه، والإكثار من حملات مكافحة الوسيط الناقل للمرض وغيرهما. وقد نبه تلك الحكومات والمنظمات إلى الاستفادة من التطورات التي حدثت في علوم أبحاث الأمراض والطب والعقاقير الطبيَّة من أجل زيادة مساهماتها المالية لتمويل وتطوير هذه الأبحاث من أجل استئصال هذا المرض نهائياً وأي مرض آخر.
في بداية القسم الرابع تطرَّق الكاتب للباب الأول منه والمتعلَّق ب”بروتوكول فض النزاع في جنوب كردفان/جبال النُّوبة والنيل الأزرق” بتعريف دقيق للفظة المشورة الشعبيَّة، متى وفيمَ وأين وردت. على أية حال، فقد بيَّن الكاتب أنَّه ما زال رأي أهل المنطقتين حول الاتفاقيَّة، خاصة بند المشورة، يشوبه نوع من الريبة شديد لأنَّ الاتفاقية بصورة عامة لم تلب رغبات وتطلعات أي طرف من الأطراف؛ فهي تعتبر إجراءً مؤقتاً فقط لوقف العدائيات لحين الحسم النهائي للمستقبل السياسي والدستوري والإداري لسكان المنطقتين. ولأهمية هذا البند أورده المؤلف كملحق وقام بتحليله تحليلاً منطقياً مدعوماً بمقارنة ومقاربة مع ما حدث في بلدان شبيهة حول العالم (تيمور الشرقيَّة مثلاً).
أما الباب الثاني فتناول بالتفصيل المشكلات الأمنيَّة قبل وبعد اتفاقيَّة السَّلام الشامل خاصة ظاهرتا التمليش (خلق واستخدام الميليشيات) والتجييش متضمناً خمسة ملاحق تفصيليَّة قيِّمة جديرة بالقراءة لما فيها من معلومات تاريخيَّة هامة. فعندما تعتقد الدولة – أية دولة – أنَّ أية مشكلة سياسيَّة تواجهها هي قضية أمنيَّة وتحاول حلها عسكريَّاً سيكتب لها الفشل التام. إنَّ تجربة “مشكل جنوب السُّودان” ليست ببعيدة عن الأذهان والأعين إذ نظرت إليها الأنظمة المتعاقبة على الحكم في السُّودان بأنَّها قضية أمنيَّة تهدد الأمن “القومي” والعربي والإسلامي، ولا بد من حلها عسكريَّاً وأمنيَّاً حتى انسكب اللبن!!!
أما الباب الثالث فقد خُصِّص للحديث عن الانتخابات “الملهاة وعناقيد الغضب” – كما وصفها المؤلف – لما شاب هذه العملية من مغالطات ومخالفات وتجاوزات. ومثل الباب الثاني ذيَّل المؤلف هذا الباب بسبعة ملاحق تتعلَّق بعضها بالسجل الانتخابي والتجاوزات الإجرائيَّة التي حدثت فيه، ورفض وإدانة الانتهاكات المباشرة لحقوق الإنسان. ومن أهم هذه الملاحق التصريح الصحفي لنائب رئيس الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال (القائد عبد العزيز آدم الحلو) مطالباً فيه عدم الزج بأبناء جنوب كردفان في معارك مع ميليشيات أو قوات حكومة الجنوب إثر المعارك التي حدثت في ولاية الوحدة الجنوبيَّة المتاخمة لجنوب كردفان والتي راح ضحيتها الأبرياء، وكذلك أبان أنَّه سيعمل لضمان حقوق الرعاة من الولاية في الرعي وتبادل المنافع مع الجنوب بحكم معرفته بالجنوب وقادته من أجل تحويل “دار الحرب” في المنطقة إلى “دار السَّلام”.
لم يترك الكاتب باباً في قضية الحرب وآفاق ومآلات السَّلام في المنطقتين وفي ظل المفاوضات الجارية بين حكومة السُّودان من جهة والحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال من الناحية الأخرى مستعرضاً الجهود المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة المبذولة لإحلال السَّلام في السُّودان بصفة عامة والمنطقتين بصفة خاصة، لأنَّ التسوية العادلة لكل هذه القضايا ستفتح أبواباً لولوج فرص التنمية العامة كل مناطق السُّودان خاصة تلك التي تضرَّرت كثيراً خلال سنوات الحرب الطويلة. وأخيراً تساءل المؤلف عن الدستور القادم الذي فيه يختلفون، وعن موقع أهل الهامش فيه (جنوب كردفان والنيل الأزرق)، وما هي مطلوبات هذا الدستور، ويصر إصراراً على أنه ينبغي أن يتضمَّن في الدستور تعزيز التوافق الاجتماعي والتسامح الديني وبناء الثقة بين أبناء السُّودان، والأهم في ذلك العدالة والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات وممارسة معطيات الهوية (اللغة والثقافة وغيرهما) بحرية وإعطائها فرص تطويرهما، وليس طمسهما، وذلك نسبة لخصوصية هذه المناطق.
نختم، لا شك أنَّ الدكتور عمر مصطفى شركيان بذل جهداً ليس باليسير في البحث عن تاريخ السلطان عجبنا ليخرج لنا وثيقة مهمة عن هذا البطل الذي لم ينصفه التاريخ السُّوداني. ولكيلا نبخس للناس أشياءهم، فقد كتب عنه عدد من المؤرخين مثل الأستاذ عيسى محمد حسب الله، والأستاذ أحمد عثمان محمد إبراهيم وغيرهما إلا أنَّ كتاباتهم وكتبهم لم تصل إلى حجرات تثقيف النشء بتاريخ الوطنيين من أبناء هذا الوطن العريض. أما المعلِّم يوسف كوة مكي فسيظل تاريخه قيد الأدراج وقابعاً في الشتات إلى حين، وذلك نظراً للظروف الراهنة، ولارتباط اسمه بالثورة النُّوباويَّة الحديثة، إلا أنَّنا نعول كثيراً أنَّ يصبح الصبح وفيه تنجلي الحقائق عن شخصية يوسف كوة ومواقفه الوطنيَّة وكيف كانت رؤيته ثاقبة في أن ينعم هذا الوطن بالسَّلام، وتسوده العدالة والمساواة والوحدة الدائمة. فمن نافلة القول، عندما تمكَّن المرض من يوسف أسرَّ لبعض الذين كانوا معه قائلاً: “أنا لو مت، سأموت وأنا مرتاح البال والضمير، لأنَّ بذرة “رؤية السُّودان الجديد” التي زرعناها سوياً قد نبتت وستنمو لوحدها”. هذا ما كان يوسف يتمنى أن تصير عليه المآلات في وطنه، وشخصية كهذه جديرة بالتمجيد بغض النظر عن الاختلاف معها وتباين الآراء حولها. أما فيما يختص ببروتوكول المنطقتين ومحادثات السَّلام وقضايا الدستور يحودنا الأمل أن يتحلى السُّودانيون بقوة الإرادة في توخي الأهداف السامية، وذلك بالوصول إلى توافق يوقف الحرب ليتفرغ الجميع للتنمية الشاملة في البلاد لأنَّ السياسة المبنية على علينا وعلى أعدائنا لا تجدي وتغني عن المسغبة.
gandul1@msn.com

 

مقالات ذات صلة