مقالات وآراء

شنقلي طوبايَا.. تلقى دهبايا”

انور شمبال

استقبلت مدينة شنقل طوباي أو”شنقلي طوباي” حاضرة محلية دار السلام جنوب الفاشر، وشرق جبل مرة، بولاية شمال دارفور في الرابع من مارس الجاري حدثا نوعيا تنادى له الأهل والاصدقاء والأحباب من كل فج عميق، من مسؤولين تنفيذيين، وتشريعيين، وأمنيين، وسياسيين، وأساتذة جامعات، وإدارات أهلية، وأصحاب المال والأعمال، والزراع، والرعاة، وأصحاب المهن، والطلاب والمبدعين في شتى ضروب الحياة والشيب والشباب والنساء..قدموا إليها راجلين وبالدواب والسيارات والطائرات، وشكلوا لوحة مكتملة المعالم لسودان الغد ..سودان السلام والوئام والتقدم والرفاهية، خاصة إن علم السودان والرايات البيضا كانت ترفرف في سمائها، مرحبة بابنها آدم أبكر رشيد، بل نصبته شرتاياً عاماً لها خلفاً لوالده الشرتاي أبكر رشيد الذى ذهب إلى رحمة مولاه، قبل عام ونيف.

لم تكد تصدق عينا رأسي ما أبصرت و”شافت” وشاهدت ورأته رأي العين، فذرفت دمعا سخينا، ثم أعادت البصر كرتين وثلاث ورباع، وربطت المشاهد بكوابيس ما جرى في هذه المنطقة، ودارفور عامة من حروب أحرقت الحرث والنسل، وفرقت أهلها شيعة وحولت حياة الناس فيها الى جحيم، و… سبحان الله مقلب القلوب، الذي قلب قلوب هؤلاء القوم على المحبة والإلفة، فأحبهم الناس وجاءوهم من الخرطوم وانجمينا والفولة والضعين ونيالا والفاشر وكسلا وكلمندو وكاس وكبكابية وكتم وكورمة وكبم وأم كدادة وأبو كاريكا وعين سرو عين فرح و… كثيرون لا يعلمون ان منطقة شنقل طوباي استباحتها الحركات المسلحة، وجعلتها منطقة محررة، ثم أعيدت لتصبح في قبضة الحكومة، وذهب جراء هذه التقلبات أنفس كثيرة، وثروات هائلة، وانتهكت أعراض، لكن بحمد الله تناسي أهلها كل ذلك ليعيشوا متضامنين ومتحابين متعافين.

حقاً (شنقلي طوباي تلقى دهباي) بل تجد معادن أغلى من الذهب والماس.. معادن الرجال والنساء المعطونة بالقيم النبيلة والترفع عن الصغائر، والتواصي بالخير والتواصي بالصبر. هي المرة الأولى التي أزور فيها منطقة شنقل طوباي، بدعوة كريمة من أهلها، لنكن شهوداً على ذلك الحدث الذي نظمته الإدارات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني، وقد فاق الحشد والتنظيم والترتيب تصوري، وفاق ما تنظمة الأجهزة الرسمية في مثل هذه المناطق، مما يعني أن للمحتفى به الشرتاي آدم أبكر رشيد معزّة خاصة، وإن للادارة الأهلية سطوتها وتأثيرها القوي على مجتمع دارفور، وما زالت الادارة الأهلية جزءا من النظام الإداري في البلاد رغم محاولة إضعافه، بل إن نظام الادارة الاهلية تمكن من مجاراة التطور الذي لحق كل شيء مع الاحتفاظ بالجودية في معالجة مشاكل المجتمع والبساطة والسلاسة في توفير الخدمات ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

كيف تتعامل الإدارات الأهلية ببساطة وسلاسة وفاعلية؟ الحدث أعطانا إجابة شافية وكافية على هذا السؤال ويزيده براعة، عندما منح العمدة إبراهيم بانقا فرصته للحديث في الاحتفال باستقبال وكيل الشرتاي آدم أبكر رشيد ، أصالة عن نفسه نيابة عن العمد العشرة الذين هم تحت إدارة الشرتاوية بكلمات بسيطات بدأها بحمد الله والثناء عليه، وصلى على نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وعرض في كليمات مساهمات وجمائل المحتفى به على أهله والمنطقة، ثم أعلن أنه يحبه كما يحبه الذين قدموا إليه من كل بقاع السودان وخارجه، وإن كل العمد في شنقل طوباي وقوز بينة يحبونه، وهم يمثلون ثماني قبائل مختلفة، ودعاهم فردا فرداً لاعتلاء المنصة، لإعلان حبهم له على الملأ، ثم لم يكتفِ بذلك، بل أعلن على الملأ بمبايعتهم للمحتفى به ليصبح شرتاياً لشنقل طوباي وقوز بينة والتي تتمدد حاكورتها بين محليتي دار السلام، وكلمندو، تعاضدت أيديهم على يد الشرتاي، وأكملوا المشهد بالتوقيع على وثيقة المبايعة، بعد تلاوتها على المحتشدين،وأمام معتمدي المحليتين، وبتلك البساطة تم تنصيب الشرتاي آدم أبكر رشيد وهو في العقد الرابع من عمره.

هذا المشهد الدرامي لم يدر بخلد أحد من الحضور المحتشدين بالآلاف، والذين أتوا لاستقبال وكيل الشرتاي الذي غاب عنهم زهاء السنتين، وهو ينم على الفهم العالي من الإدارات الاهلية، ومن يقف من خلفهم، كما يؤشر إلى إن المنطقة ستدار بحكمة أولئك العمد، وانها موعودة بتنمية، ومعالجة آثار الحرب وازالة التشوهات في المجتمع، التي أحدثتها الظروف الاستثنائية التي مرت بها المنطقة، وما ذلك بعزيز على الله ، الذي يسر وألف قلوب كل أولئك الحشود لحضور ذاك الاحتفال الجماهيري المحضور.

كما صعدت في هذه الزيارة التاريخية إلى جبل حريز ، مقر سلطنة التنجر التي تعود لأكثر من سبعة قرون وتعد سلطنة التنجر أولى الممالك الاسلامية التي حكمت كل دارفور وكردفان وتشاد، شرّعت قانون دالي الذي يدرس في كل جامعات العالم، وكان تشريعا نبع من الممارسة اليومية لهذه السلطنة العظيمة والتي اكتملت في عهد السلطان إبراهيم الدليل المعروف بدالي الذي أخذ القانون اسمه. ووجدنا بعض آثار ذاك التاريخ التليد، الذي يحتاج للتنقيب عنه، وعن حضارات خالدة في دارفور، فيما ظل الجبل صامداً شامخاً وفعلت الطبيعة فعلتها بالغابات الكثيفة التي كانت تغطيه، إلا من بقايا بعض الشجيرات، والأعشاب التي تبعث الأمل بعودة كل الذي فقده جبل حريز، عاجلاً أو آجلا، والأمر بيده سبحانه وتعالى الذي تجري بمقاديره كل الأشياء.

anwarshambal@hotmail.com

مقالات ذات صلة