قراءات و تحليلات

جبل عامر والأجانب قد شهد شاهدٌ من أهله… عندما يلد الفكي ذنوبه ينقلب السحر علي الساحر

بقلم : مني أركو مناوي
عُرف إسم هذا الجبل في أشعار الدوبيت، تداولته لغات أهل دارفور المختلفة منذ قرون، تختلف مناسبات وروده متناسقة مع متغيرات الزمن في دائرة جغرافية ثابتة لم تتغير، حيث يقع في الركن الغربي من محلية السريف، يُخبئ في جوفه كتلاً أخري من جبالٍ ثمينة تجتذب ذئاب الأرض يتقدمهم الحزب الحاكم يجر معه أذياله من المرتزقة، فوجاً بعد فوج من كل البقاع، لم يتفاجأ الشعب السوداني بالتصريحات غير المسئولة والمُتناقضة التي صدرت من مؤسسات الإنقاذ، أولها عويل عصمت عبدالرحمن وزير داخلية النظام وهو يُعبر عن قلقه إزاء الوجود الأجنبي المسلح في منجم جبل عامر الذي يُعتبر من أغني مناجم الذهب في السودان .
بهذا الإعتراف أخرس الجنرال كل ألّسِنة الإنقاذ التي ظلت تنفي أي وجودٍ أجنبي في دارفور لمدة خمس عشرة سنة متتالية، ولم يكتف الوزير بذلك ، بل وصرخ باكياً يطلب من الجيش التدخل لحسم الأمر بعملية عنوانها فرض (هيبة الدولة) المفقودة أصلاً وطرد الأجانب المتفوقين علي شرطته عدةً وعتاداً حسب قوله، أعقبه عويلٌ آخر من الناطق الرسمي لمليشيا الدعم السريع ينسف زعمه، بإدعائه أنهم أي ( الجنجويد ) هم الذين يبسطون سيطرتهم علي الجبل المذكور وقد صدق كلاهما!!.
هل كان الوزير صادقاً بقوله هذا ؟ ولم لا ؟ لقد عمل سعادته رئيساً لهيئة أركان الجيش قبل أن يُكلف بالداخلية، فتدرج في خدمة الإنقاذ عبر محطات عديدة أهمها، القيادة الغربية بالفاشر بعد (هجمة رعد الصباح ) التي نفذتها حركة تحرير السودان في رئاسة الولاية وفي المطار الحربي في صبيحة 25 أبريل 2003، هذا يعني أن الوزير يدري أنه يدري ويعي تماماً أن في مؤسسة الجنجويد، كيفاً و كمّاً، عددٌ من الأجانب ولماذا يُوجدون؟ وما هو نوع تسليحهم؟ ويجدر بنا أن نذكر هنا أنه أيضاً أحد الضباط الذين خضع لإستجواب محكمة الجنايات الدولية في جلسةٍ امتدت لثلاث ساعات في إحدي القاعات المظلمة في الخرطوم قبل أن ينطقوا كلمتهم المضخمة ( السيادة الوطنية ). هذه التحريات ربما هي السبب في ترك الحبل علي الغارب للرئيس.
وصدق كذلك الناطق الرسمي العميد سابقاً، المقدم آدم صالح أبكر بأنهم أي (قوات الدعم السريع بكل أقذارها) يُسيطرون علي المنطقة بكامل كنوزها، فهو صادقٌ كذلك، بما أن الأجانب مكون أساسي للدعم السريع، إثبات سيطرته لا ينفي وجود عناصر غير سودانية، عكست هذه التصريحات المتناقضة بعض خبايا النظام ربما هي ناتجة عن تنافس بؤر القوة التي تبحث كلٌ منها على نصيبها من فتات جيفةٍ تناثرت من أنياب الإنقاذ.
أما في هذه الوقفة سنُشير إلي الذي يهم القارئ وهو :- ما جري و يجري في جبل عامر من واقع اليوم والأمس القريب بعد 2012، وهو العام الذي أُكتشف فيه مخزون الذهب في هذه المحلية، استهلت الإنقاذ بداية النشاط التعديني في جبل عامر بكارثة إشعال حرب بسوسٍ جديدة بين الأبالة والبني حسين بغرض تهجير مدينة السريف حاضرة المحلية خوفاً من أن تطالب بحقها من الجبل المعدني، الصقت تهماً وأسماءً وألقاباً بسكان المنطقة مثل ( النهب ) و(التمرد ) بمقدار ما يبيح لها القتل، الطرد وإخلاء المنطقة وبذلك قد نجحت في حصاد ما يُقارب ألف نفساً بريئةً ولم يسلم حتى الأطفال والنساء، لولا صمود الناظر جدي أمام كثافة السلاح لخلت المنطقة من الحياة، العدالة في هذه الحرب هي السلاح الحكومي الذي كان يوزع النزيف الدموي بالتساوي علي طرفي الحرب قبل أن يتدخل الشيخ موسي هلال لوقف الإقتتال داعياً
إلي مصالحةٍ أهليةٍ. بإستجابة الطرفين المتقاتلين له وضع الشيخ هلال الحكومة في خانة الإحراج ولم تبق أمامها بعدئذ حجةُ لدفع القتال سوي تحايلها مرة أخري لتشكيل ما سميت بآليات الصلح لإحكام السيطرة علي المنجم بأكمله.
قد حلت بأهل المنطقة والباحثين عن الذهب كارثةٌ أخري (علي غرار أن المصائب لا تأتي فُرادًا ) كارثة ليست أقل حِدةٍ من الحرب الأهلية، وهي إنهيار المنجم علي رؤوس عشراتٍ لم يجدوا منقذاً رغم نداءاتهم للإستغاثة من باطن الأرض والتي كانت تطرق مسامع الجميع وقد امتدت لأسابيع، فانضمت إثر ذلك الإذاعات ، دبنقا وعافية دارفور، لنداء الإستغاثة ، إلا أنهم قوبلوا بإستدارة السلطة لظهرها ولم يجدوا من مجيبٍ سوي الموت الذي أسدل الستار على حياتهم، هذه الكارثة كانت كارثةً طبيعية ولكنها كان يُمكن تداركها بوجود آلات الحفر الحديثة التي كانت تعمل علي بعد أمتارٍ فقط من المقبرة المذكورة، امتنعت عن أية محاولة لإنقاذهم بسبب إنشغالها في كنز الذهب وجمعه.
“لجان اللصوص”
١- تكونت لجنة حكومية عليا بتمثيل خمس محليات وهي :- السريف، سرف عمرة، كباكابية، كتم والواحة تضم ممثل من أفراد الأمن من كل المحليات المذكورة مهمتها الإشراف وضبط الإيراد اليومي من الذهب وتوزيعه عدلاً في موائد الحيتان، تقوم بحماية المنجم كتيبةٌ من الجيش تتبع لرئاسة لواء في كباكابية تستقر في قمة الجبل حيث يسهل لها مراقبة جميع الإتجاهات ومدعومة بحاميةٍ أخري تقع في الركن الشمالي الغربي للجبل محمية بخنادق ترابية حفرت دائرياً تحيطها أسلاك شائكة تتبع لمليشات حميدتي، في داخلها عناصر المعارضة التشادية والآخرين من دول الإقليم وبعض سودانيين من فلول الحركات، الجميع يحملون بطاقات تتسلسل أرقامها لتندرج في قوائم المرتبات تدفعها رئاسة الجمهورية.
٢- لجنةٌ أخري شعبية منبثقة من اللجنة العليا، من إدارات أهلية لبعض القبائل المختارة التي سكنت في المنطقة، الغرض منها فض النزاعات وتنفيس أي غضبٍ شعبي يمكن نشوبه جرّاء سرقة الإنتاج وتأمين الدعم الأمني بحشد المزيد من الأفراد من هذه القبائل لأي إحتمالات محسوبة وغير محسوبة مقابل مبالغ زهيدة تدفعها لهم مجموعة شركات اللصوص القابضة.
“الفكي يلد ذنوبه”
قد سلحت الحكومة مليشيات الدعم السريع تسليحاً حديثاً ووفرت لها عتاداً لا يقل عن ألف سيارة محملة بالأسلحة لإجتياح المعارضة المسلحة، في الصيف الماضي أرسلت هذه القوات إلي النيل الأزرق لكنها اصطدمت بجرس إتصالٍ ساخن من الحكومة الأثيوبية التي طالبت بإبعاد الجنجويد من مناطق التماس لدولة أثيوبيا واعتبرتها مهددةً لأمنها القومي فلم تجد الحكومة السودانية كرتاً لتلوح به في هذا الملعب سوي طلبها بالضغط علي المعارضين من أبناء هذه المناطق للتوقيع علي خارطة الطريق مقابل سحب مليشياتها، فتمت المقايضة بذلك الدفن بالكفن.
بعد هذا الانسحاب، إستقرت المليشيا مؤقتا في الشمالية لكنهم قوبلوا برفض أهلها، حيث ارتفعت أصواتٌ شعبية تطالب بإخراجها من الولايات الشمالية عموماً فضاقت بهم الأرض بما رحبت، فأمرت الحكومة بإرجاعها إلي دارفور فوراً مرة أخري ونشرت بعضهم في جبل عامر لحماية شركات التنقيب التي يستغلها زعماء المشروع الحضاري ورفقاؤهم من زعماء المليشيات، إلا أن هذا الحلف الشيطاني لا يمنع نشوب الخلاف والتوتر بين هذه القوات والحكومة وخاصةً حين تتأخر مرتبات موعودة في ظل أزمة مالية تعيشها البلاد كلها.
تصاعدت الخلافات بين بُطُون من يمتلكون حق الإستحواذ علي لقب الدعم السريع وحرس الحدود وغيرها لأسباب لم يظهر منها سوي شبرٍ من الجبل الجليدي، تعود غالباً الي بروز بعض من بنود الإتفاق الخفي بين رئاسة الجمهورية وحميدتي علي حساب بعض القبائل الأخري التي ضحت بنفسها لحماية الإنقاذ كما فعل الآخرون، لذلك تجد هذه الأيام ظاهرة تنامي رفض تعليمات قائدهم المفروض المستر حميدتي وهو أيضا يتهم موسي هلال بأنه يقوم بتحريض أفراد مليشياته حول المنطقة لتحويل فروض الولاء إليه، بعضهم يمارسون نشاطاً من صميم صلاحيات المستر حميدتي، مثل تجارة البشر وتصديرهم إلي أوروبا عبر ليبيا بإستغلال المسترزقين من تجمع الأفارقة في المنجم وربما جاءت تلك التصريحات من الوزير بعد دراسة دقيقة للأوضاع الداخلية وأزماتها المرتبطة بالخارجية، يُمكن للحكومة إفتعال الحرب مع مليشياتها لإستعطاف العالم معها بتحميل كل الجرائم علي هذه المجموعات القبيلية طالما صعد أسمها دولياً وقانونياً، هذه الحالة تسبقها تصريحات لتعبئة الرأي العام تمهيداً لاشعال الحرب، إن كرة (اليانصيب ) في ملعب الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، لا يدري أحد كيف ستبدأ الإدارة القادمة سياساتها تجاه أفريقيا وخاصة الإنقاذ تمتلك مخزون كاف من الذنوب لا تغتفر – الإبادة الجماعية – المحكمة الدولية – رعاية الاٍرهاب – نظام الحكم العنصري الذي ظل لأكثر من ستين عام – هضم حقوق الشعب – العقوبات الإقتصادية – الأزمة المالية – سجل تدخلات في شئون الغير من الجوار الإقليمي وإحتضان معارضات بالإضافة لصراعاتها الداخلية. كل هذه الإحتمالات قد تنجم بها المُنجمون، يُمكن أن يصدق المنجمون ولو كذبوا أو يأتي العكس بإنزلاق الإدارة القادمة بتقارب مفاجئ نزولاً وخنوعاً لبعض المصالح قد تحددها بكيلها السياسي وعلائقها المتشعبة، مثل الدور الذي تلعبه روسيا معها إذا قدر له فضاء السودان كسلة لرمي بعض القاذورات يسهل لهما ذلك في وقتٍ يحرسه مخمور مثل نظام الإنقاذ وهو تنبؤ قد ينطبق علي تصريحات البشير قبل أقل من شهر، إذ قال أن الإدارة الأمريكية القادمة ستغير كل سياسات الضغط علي السودان وستكون أقرب إدارة أمريكية لنا علي الإطلاق، ويُبرر قوله بأن ترامب وطاقمه ليسوا من شاكلة الأناس الذين يهتمون بحقوق الإنسان وهم مجردون أخلاقياً اذا صدق الجنرال في هذا التعريف سيصدق معه التطبيع والتقارب.
بين هنا وهناك، سيظل الهم الذي يُؤرق أوروبا هو الهجرة، والسودان ستظل دولة المصدر والمعبر، لا شك في أنه من الممكن أن يلعب دوراً في ذلك الهم الأوروبي، سلباً أو إيجاباً، مع الإتحاد الأوروبي الذي يبدو أنه إختار موقف أن يستميل السودان أكثر من موقف تغيير ظروف وأسباب الهجرة، هذا الموقف الأروبي ربما يصبح أحد أدوات تُستخدم في مائدة التفاوض، والعلاقات الدولية لا تُقرأ دائماً بالحروف الأبجدية، لذلك يصعب التكهن بمسار
سياساته خاصةً بعودة اليمين في أغلب دول العالم، وحتماً ستغرق مليشيات الحكومة بمختلف مسمياتها في هذا المحيط الدولي المتلاطم، عاجلاً أو آجلاً، مع بقاء الإنقاذ أو عدمه الأمر الذي يستوجب منا تنظيف هذا الوطن لتصبح كل مؤسساته وطنية .
مني أركو مناوي
التاريخ: الأربعاء، ١١ يناير ٢٠١٧م.

مقالات ذات صلة