قراءات و تحليلات

الحركة الشعبية لتحرير السودان الشهب المحترقة في سماء الثورة

الشهاب ذلك الجرم السماوي اللذي يسقط من أعلى محترقاً في السماء حتى لا يتبقى منه شيئاً في رحلة سقوطه إلى الأرض .. لماذا شابهت رحلة بعض نجوم الثورة المسلحة التي إنطلقت من هوامش السودان رحلة ذلك الجرم السماوي؟! قد يندهش المراقب والمحلل للشأن السياسي خاصة من لهم إهتمام بما يعرف في أدبيات السياسة السودانية بنضال الهامش من كيف أدﱠت الملابسات السياسية بأحد أبرز النجوم في سماء السياسة السودانية وهو المناضل ياسر عرمان المشهور بنضاله الطويل ضد الدكتاتورية ووقوفه الـﱠذي لا يلين مع المظلومين والمهمشين في جميع أنحاء السودان متهماً بذات الجرم الـﱠذي يكافِحُه؟!
في محاولة منا للإجابة على السؤال أعلاه والـﱠذي يعتمل في صدور الكثيرين نسوق هذا التحليل المتواضع والـﱠذي قد يصيب في كثير من جوانبه وكذلك قد يجانبه الصواب في كثير من النواحي الأخرى ، ففي النهاية هذا تحليل يعبر عن وجهة نظر الكثير من المراقبين للأزمة الحالية للحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) وما إنتهت إليه حتى الآن في رحلة دراماتيكية إلى مايعرف بـ (قرارات مجلس تحرير جبال النوبة) والـﱠتي إلى مدىً بعيد قد تنهي الحياة السياسية لكوكبة لعبت دوراً بارزاً لا يمكن إنكاره في حياة الحركة الشعبية لتحرير السودان بطريقة لا تخلو من تراجيديا.
أولاً حتى لا ننسى يجب أن تذكروا أن ياسر عرمان كان أحد أبرز المرشحين للرئاسة في إنتخابات العام 2010م الشهيرة بل كان هو نفسه أشهر المرشحين وقد تكون حملته من أشهر الحملات الإنتخابية التي حدثت في التاريخ المعاصر في السياسة السودانية والـﱠتي وجدت دعماً وسنداً غير مسبوق من قطاعات واسعة من المثقفين والمبدعين والفنانين وقطاعات أوسع من المستنيرين الـﱠذين هجروا أحزابهم الرسمية ليقفوا بجانب حملة عرمان في ظاهرة تلاحمية فريدة تخطت حواجز الأحزاب.
بعد وفاة الراحل المقيم الدكتور جون قرنق لم يفُت على المراقب أن الثقل الحقيقي للحركة الشعبية قد إتجه جنوباً بسرعة وطريقة منظمة وكأن هناك مخططاً جاهزاً أخرجته القيادة التي كانت على رأس الحركة الشعبية آن ذاك من جيوبها العلوية وبدأت تنفيذه فوراً دون تردد وكأنها كانت تنتظر رحيل د. جون. وبدا واضحاً أن الخط اللذي تتشوق له الجماهير والـﱠذي أدﱠى للإستقبال الأسطوري للراحل د. جون في الساحة الخضراء (يعتقد البعض أنه ربما كان أكبر إستقبال جماهيري حدث لشخص في أفريقيا) سوف لن يتم تنزيله على الأرض ، بل وإنه لربما كان هذا الإستقبال عبئاً وورطة كبيرة لجهات عديدة داخل وخارج السودان ، ولكن بالتأكيد تم حشر المؤتمر الوطني في زاوية شديدة الضيق ما إن أصبح ظهره مقابلها حتى شعر بأنفاس حارة تلفح رقبته من الخلف وبمجرد إلتفاته ليرى من سبقه إلى هذه الزاوية .. لم يجد إلا غُرماء د. جون في الحركة نفسها! وباقي القصة معروفة للجميع ، سواء كانت تكهنات ، حقيقة ، أو نظرية مؤامرة فطيرة ، فما يهمنا ما حدث بعد ذلك والـﱠذي مازلنا نعيش تداعياته حتى الآن.
كان من أول تداعيات وفاة د. جون وبعد أن شعر الجميع بالتغيرات الـﱠتي بدأت تلوح في الأفق أن غادر وإنزوى أو على الأقل تم تحجيم العديد من القيادات الـﱠتي كانت تضع عليها الجماهير آمالها خاصة مِمـﱠن كانوا يعرفون بأولاد جون. كان هناك تقريباً مايشبه الفراغ بالنسبة للحركة في الشمال أو هكذا أحس الكثيرون ، خاصة بعد الأحداث المؤسفة لمقتل قرنق والـﱠتي سببت ضرراً شديداً للحركة في ذلك الوقت ، وقد كان سبب هذا الإحساس بالفراغ واليتم الـﱠذي كان عميقاً لدي قطاعات واسعة أن الفكرة برمتها كانت معلقة بشخص د. جون ويجب أن لا ينكر البعض أن هذا كان من الأخطاء الإستراتيجية للحركة والـﱠذي كان سببه د. جون نفسه. قام في تلك الفترة ياسر عرمان والـﱠذي كان غنياً عن التعريف في وسط الجمهور لكراهية النظام الشديدة له وبصفته واحداً من أشهر أولاد قرنق بشجاعة في رأيﱢ بقبول التصدي لهذا التحدي الضخم بعد أن أسندت إليه قيادة الحركة بمسؤلية تنظيمها جماهيرياً وسياسياً في الشمال وكان هذا عملاً عملاقاً من المستحيل أن يقوم به شخص واحد ، وهنا وقع ياسر في أول خطأ فادح له ، فقد إختار نمطاً قيادياً شبيهاً بنمط قرنق ، وإذا كان من حيث المبدأ النمط الـﱠذي إختطاه د. جون في القيادة يعتبر نمطاً خاطئاً إلا إنه لاتنطتح عنزتنان في أن د. جون شخصية إستثنائية شكلتها ظروف فوق العادة وأدﱠت ملابسات معينة لظهورها على المسرح وهذا المسرح نفسه مختلف كلياً من حيث الجوهر عن المسرح الـﱠذي وجد عرمان نفسه فيه ، إلا إنه في رأيﱢ على الأقل قد تمكن من فعل الكثير وإستطاع أن يصبح على رأس تنظيم لا يستهان به ، وإختبر ياسر مقدراته التنظيمية والقيادية فعلياً على الأرض وحقق نجاحاً لا ينكر وبالنتيجة حصل عرمان على كسب ورصيد سياسي كبير تمظهر في قمته كما قلنا في الحملة الإنتخابية (حيث شاهدنا كيف كان يُجَن جنون الشباب من الهامش والوسط عندما يتقدم عرمان ليخاطب قواعده في الحملة الإنتخابية) وبالتالي أصبح هذا إرثه (His legacy) اللذي جناه من فترة إتفاقية السلام ، وكانت هناك إحتمالات مطروحة لا يمكن إغفالها بأن هذا الإرث إذا ماتمت إدارة الأمر بعناية يمكن أن يساهم في ميلاد تنظيم يشكل رقم رئيسي في الشمال وفي نفس الوقت له علاقات قوية مع الجنوب (حيث كان واضحاً في ذلك الوقت أنه لايوجد شئ موضوعي على الأرض يمكن أن يوقف الإنفصال) وهكذا وقعت مسؤولية كبيرة على عرمان وقد كان بالتأكيد يعلم ذلك بالحفاظ على ذلك الإرث الـﱠذي تم بذل جهد مقدر فيه ، وتم فيه تقديم تضحيات بما فيها الحبس مع عدد من رفاقه رغم الحصانة القانونية في مخفر للشرطة العادية!! وقد كان واضحاً لكل ذي نظر أن هكذا تنظيم يمكن أن يلعب دوراً بارزاً في مستقبل الحياة السياسية السودانية خاصة إذا سقطت الإنقاذ بجهود سياسية في الشمال دون أن ينحل السودان نفسه! وقد كان عرمان بالتأكيد يدرك ذلك أيضاً ، وهذا في إعتقادي ما بنى عليه عرمان تحركاته اللاحقة ، التحركات الـﱠتي في رأيﱢ إنطوت على قصور إستراتيجي لم تتم فيه إدارة أزمة إنفصال الجنوب وتداعيات ذلك على الحركة في الشمال بشكل سليم. لقد كان واضحاً منذ البداية بأن الإتفاقية نفسها ناقصة وبعد مقتل قرنق بقليل كان يمكن الجزم بسهولة أن الجنوب في طريقه للإنفصال لامحالة. وقد كان واضحاً أيضاً أن هناك نزاعاً مسلحاً سوف ينشب في المناطق الثلاثة (جنوب كردفان ، النيل الأزرق ، أبيي) حيث تجاوزتهما الإتفاقية على عجل ، ففي وقتها بلغ الصداع بالمجتمع الدولي مبلغه في ما عرف في ذلك الوقت في الأوساط الدبلوماسية العالمية بصداع السودان (Sudan headache) حيث لم نكن بالنسبة للمجتمع الدولي ببساطة سوى أمة غير ناضجة من الفقراء تسبب لهم صداعاً شديداً يشغلهم عن مشاكل أخرى أهم في العالم. وبات في حكم المؤكد في ذلك الوقت أن المؤتمر الوطني سوف لن يتصرف بحكمة ففاقد الشئ لايعطيه ، إذاً كان مؤكداً أن الحرب ناشبة لامحالة وبالتالي إذا كان الأمر واضحاً للمراقب العادي في الشارع فكيف لم يضع الإخوة في ما عرف بقطاع الشمال في ذلك الوقت إستراتيجية واقعية للتعامل مع الواقع القادم وليس الأحلام؟. في رأيﱢ كانت هناك إستراتيجية ولكنها كانت مبنية على أن الأمر سيتم تداركه ولو مؤقتاً على الأقل ، بحيث سيتم إكتساب المزيد من الوقت ليتم تدارك الأمر نهائياً بتسوية سلمية ولو قبلت بها شعوب المناطق الثلاثة على مضض. إنطبق الأمر إلى حد كبير على أبيي ولكنه أبى أن ينطبق على المنطقتين حيث نشب النزاع في جبال النوبة وجر معه في فترة وجيزة جنوب النيل الأزرق كما كان متوقعاً. هنا كان في إعتقادي على الأرجح خياران عمليان لقطاع الشمال لاثالث لهما إما أن يرمي خلفه ما حققه من إنجازات في الشمال وينخرط في النزاع المسلح منحازاً لقواعده في المنطقتين ومضحياً بتنظيمه في الشمال حيث في أفضل الأحوال سيتحول إلى تنظيم سري يعمل تحت الأرض ، أو أن يستقل بنفسه مع الإحتفاظ بعلاقات سرية بالتنظيم في مناطق النزاع ويستمر كحزب سياسي عادي في الشمال محتفظاً برصيده وبانياً عليه حتى يحقق أقصى ما يمكن أن يحققه هذا الحزب على الساحة السياسية السودانية ، وهنا وقع ياسر في خطئه الثاني الكبير فقد حاول في مناورة إكروباتية أن يلم كل البيض في سلة واحدة بحيث لا يفقد تنظيمه في الشمال وفي نفس الوقت ينحاز لقواعده في المنطقتين بصورة واضحة لا تفقده رصيده هناك ، مع أنه في البداية قد بدا بأن عرمان قد ضحى بتنظيمه في الشمال إلا أن الواقع والدلائل تشير بأنه قد حاول الإنتقال به أو بطليعة منه على الأقل إلى مناطق النزاع ثم العودة به مرة أخرى بعد أن ينطفئ النزاع بطريقة أو بأخرى. وقد إنبنى هذا الموقف على إفتراض أن ياسر سوف يفقد قواعده في المنطقتين إذا بقي في الشمال ، وهذا إفتراض خاطئ إذ كان من الممكن أن يقوم بدور أقوى يكسبه المزيد من القواعد في الإتجاهين في حالة بقائه في الشمال ، ولهذا كان على ياسر أن يتخذ موقفاً حاسماً بعد أن يُعمل حساباته السياسية بكل عناية ، فإذا كان قد قرر الإنخراض في النزاع المسلح المباشر كان يجب عليه أن يتحمل حقيقة أن هذا الأمر سينطوي على تضحية كبيرة حيث أنه سينزل مقاماً أقل بكثير من المقام اللذي حصل عليه في فترة ما قبل الحرب حيث قد أصبح المسرح عسكرياً وحربياً في المقام الأول مع هامش سلطة إدارية مدنية ودبلوماسية وليس متوقعاً أو من المحتمل أن يغير ياسر دوره ليصبح قائداً حربياً مؤثراً على الأرض أو يستطيع أن يقوم بتعبئة مؤثرة تتمخض عن حشد أعداد غفيرة كجنود في الميدان أو تكون له جهود تحدث فارقاً لوجستياً في جبهة القتال. كذلك لم يكن ممكناً أن يرضى بسلطة مدنية أو دبلوماسية هامشية إذ حتى قيادة ملف التفاوض لا تحتاج لشخصية سياسية من الصف الأول (الأمر الـﱠذي أصبح عليه عرمان بعد كسبه في الخرطوم) ، ورغم ذلك تم إنزاله منزلاً رفيعاً وهو الأمين العام ورغم كل ما قيل عن رفاعة هذا المنصب ومدى إستغلال ياسر له في تدعيم سلطته كما يدعى فرقائه في الأزمة الحالية إلى أن الأرضية التي كان يقف عليها ياسر في هذا المنصب كانت هشة إذ لم تكن مستندة على شروط المسرح الحربي الجديد الـﱠتي ذكرناها. كانت الممارسة الطبيعية بالنسبة لياسر والـﱠتي مارسها في هذا المنصب إمتداداً لممارسته في المسرح القديم حيث تخيل ياسر دون وعي منه أن الأداء الـﱠذي أداه في الخرطوم قد ينجح في كاوده ولم يغير من أدواته الـﱠتي كان عليها كثير من الجدل لا يظهر على السطح إبان مسئوليته عن قطاع الشمال ولم يُعمل مجساته لإستطلاع الرأي العام الحقيقي الـﱠذي أخذ يتبدل تحت رجليه رغم أن هذا الرأي قد أتى يسعى إليه حتى عنده ولكنه لم يحفل به ، وربما كان السبب أنه كان يعتقد خاصة بالنسبة للنوبة (مسمار النص) كما كان يسميهم أنه لا يمكن أن يتجه بهم الرأي إلى مسارات أخرى خاصة كمسار تقرير المصير والأرجح أنه كان مؤمناً إيماناً عميقاً بذلك وبالتالي ربما كان يعتقد أن رفيقه عبدالعزيز الحلو رجل متعصب صعب المراس وأن الأمر لا يعدو أن الحلو يريد أن يفرض آرائه المتعصبة والـﱠتي لا تسندها قاعدة كما تخيل وكان هذا (كعب أخيل) الـﱠذي أصيب فيه عرمان حيث إتضح له فيما بعد أن النوبة (مسمار النص) وبعد أن جرت مياه كثير تحت الجسر الـﱠذي لم يكن ياسر يُطِلُ منه ليرى ماتحته ، قد كانوا فعلاً يعتقدون أن هناك مسمار ولكنه مسمار في نصف رأسهم .. !
لم يقدر ياسر بأنه كان عليه أن يكون سباقاً في معركة الرأي العام مع الإحتفاظ بحقه في التأثير على هذا الرأي ، ولكن إذا كان هذا الرأي قاطعاً ويعلم إلى أين يريد أن يتجه فلا يستقيم التحايل عليه خاصة في الوضع الـﱠذي كان عليه ياسر حيث إما أن يكسب معركة الرأي العام أو أن يكون لديه في الميدان مايرجح كفته ويكفل له فرض رأيه ، الأمر الـﱠذي لن يكون صحيحاً أيضاً ولا هو متوفر له ، أما الطريق الثالث والـﱠذي يعتقد الكثيرون أن ياسر قد سلكه وقد يفسر التشفي المدهش الـﱠذي وقع عليه وطاقمه الـﱠذي كان يتكئ عليه بعد الثورة عليهما ، كان هو العمل اللوبي والـﱠذي أيضاً في مثل هذه الظروف (ظروف الثورة المسلحة) قد يكون مؤثراً إلى حد معين تصبح بعده الأمور مكشوفه حيث ليست هناك مؤسسات ضخمة كالدولة يمكن إخفاء هكذا عمل فيها بكفائة والجيش نفسه على الأرض تكون لديه قضية حيث بدونها لا يمكن الحفاظ على تماسك القوات ولهذا غالباً يكون العمل اللوبي في مثل هذه الظروف عواقبه وخيمة قد تصل إلى التصفية الجسدية .. ولهذا فقد كانت هذه لعبة خطرة.
إذاً مالضرر الـﱠذي لحق بالحركة الشعبية جراء إصرار عرمان على النظر إلى الطريق أمامه بمنظار تنظيمه السابق في قطاع الشمال؟ .. أولاً لقد أصبح تنظيم الحركة في مناطق سيطرة الحكومة متشرزماً أو في حيرة منتظراً ما ستتمخض عنه هذه الأزمة ، ثانياً وضع الحركة في جبال النوبة متماسك مع تمنيات هنا وهناك بأن يقوم القائد جقود مكوار مرادة بعمل يرجح أحد كفتي النزاع ، فأصبح وضعه كلاعب في غرفة التسجيلات بين هلال مريخ! الأمر الـﱠذي ربما يحتم عليه أن يصدر بياناً أو تصريحاً يطمئن به جمهوره (رشح أثناء كتابة هذا المقال أن هناك إجتماعاً للجيش بقيادة جقود وعزت كوكو أنجلو حسم الأمر) ، ثالثاً الوضع في النيل الأزرق ضبابي حيث أن كل التداعيات المؤسفة وقعت هناك مع إحتمال كبير بإنقسام إثني لِيُمكـﱢن عقار وعرمان من أن تكون لهم قاعدة ما يستندون عليها وهو للحقيقة أمر مؤسف لايليق بهما ، وهو مايقودنا للضرر الأكبر وهو أنه غالباً ستكون هناك حركتان شعبيتان متشاكستان بما لا يخدم مصالح النضال (قد قامت وسائل الإعلام فعلياً بتسمية الجناحين الآن – عقار ، الحلو).
قد لايفوت على القارئ أن هناك صدمة كبيرة مِما جرى حيث أصبح القائد عبدالعزيز الحلو يُنظر إليه خاصة في الشمال والوسط على أنه قائد مناطقي جهوي يدافع عن عرقيات معينة ، أما عرمان فقد أصبح في نظر الكثيرين شيطاناً خاصة لدي قواعده الـﱠذين ينتمون للمنطقتين وهذا الأمر سببه ثقافة الأسطرة في السودان للشخصيات السياسية والقيادية الـﱠتي يعتقد أنها يُمكن أن تُحدث فارقاً والإعتقاد بمثاليتها وهذه الثقافة يتساوى فيها اليمين واليسار والهامش على حد السواء مِما يؤدي إلى الصدمة والشعور بالمرارة عندما يخذل واقع الممارسة ماكان متوقعاً مِما يقود إلى حجم من العداء لهذه القيادات يكون بنفس درجة تعلقهم السابق بها ، فبالنسبة لعرمان أصبح هناك قطاع واسع يؤمن بنظرية مؤامرة قام بها منذ البداية بحنكة شديدة ليقوم بتصفية الحركة الشعبية وتحويلها لتنظيم مدني يكون قابلاً للتدجين يتم عن طريقه الحصول على حصة جيدة من السلطة والثروة و بأن الموضوع كله معد ومرتب بعناية ليصل إلى نهايات معينة على طريقة حبكة مباريات وأحداث المصارعة الحرة ، وأن عرمان شابه البطل المشهور راندي أورتن في حركته الشهيرة (آر كي أو) (حيث يسقط أورتن أولاً قبل خصمه على الأرض ويسقط معه الخصم في حركة عنيفة وبهذا حسب مصطلحات المصارعة يكون قد فَنـﱠش من Finish خصمه) وأنهُ هكذا كان عرمان في حمى سعيه للفوز في مباراة قيادة الحركة إلى مراميه يسعى لكي يُفَنـﱢش الحركة الشعبية فسقط هو ألاً في نظر الكثيرين. (خارج السياق أعتذر لمحبي المصارعة ولجمهور الهامش خاصة ، لأني أعرف أنه يعشق المصارعة الحرة ، ولكن صدقوني معروف في الأوساط الرياضية أن مبارياتها مرتبة بالإتفاق بين اللاعبين ويتم تقسيم الأدوار بينهم ، لو لم أعتذر أعرف أن البعض لن يواصل القراءة!!).
يقودنا هذا إلى أوجه القصور الـﱠتي شابت أداء عرمان السياسي والإداري والـﱠتي وضحت في النهاية أنها تحمل نفس الداء الـﱠذي تعاني منه السياسة السودانية يمينها ويسارها ، فرغم أن عرمان قام بإنجاز سياسي كبير وبحنكة لاتنكر حسب مقاييس السياسة السودانية إلا أنه لم يتلافى السائد والمعمول به حسب تلك المقاييس أيضاً بحيث قام بعمل عدائات واسعة له في داخل تنظيمه إبان فترة عمل التنظيم في الخرطوم عن طريق الإقصاء والتضييق وفوبيا سرقة الثورة وبإعتماد مركزية قابضة وعدم إحتواء الخلافات الفكرية بطريقة بنائة. كانت نتيجة ذلك أنه نجح في إقصاء وتفريق من كانو يختلفون معه فكرياً وتنظيمياً ولكنه لم يهتم إلى أين سيتفرق هؤلاء .. فقام بتفريخ قنابل موقوتة لنفسه ، فمن الواضح أنهم لم يتلاشوا أو يذوبوا في الهواء بل ببساطة سلكوا دروباً أخرى يتقون بها شر عرمان فكانت لسخرية القدر هذه نفس الدروب الـﱠتي سيسلكها عرمان مستقبلاً ليتقي هو الآخر شراً أكبر منه ، فوجد ذات القنابل الـﱠتي فرخها تنتظهره هناك ورغم ذلك لم يتعامل معها بالحيطة والحذر الكافيتين أو يتعاطى معها بحنكة تقيه ماهو في غنى عنه بل أخرج من جعبته ذات الأدوات القديمة ظاناً أنها ستكون لها نفس الفعالية السابقة فكان الإنفجار حتمياً.
ورغم كل ما سبق ذكره فيجب أن لا نغفل عن إلقاء الضوء على دور الصراع الفكري في ما حدث بحيث أن تضييق المواعين الفكرية ومحاولة صبغ الحركة بلون فكري وعقائدي واحد كالماركسية مثلاً قد سبب ضرراً بالغاً ، فلا يوجد منهج فكري واحد يمكن أن يصلح ليكون هو الموجه الوحيد لحركة جماهيرية سواء كانت مسلحة أو سلمية ولقد أثبتت كل التجارب البشرية ذلك إلا أنه كانت هناك فوبيا داخل الحركة من أن هناك منهجاً وهو منهج التحليل الثقافي يريد أن يقصي المنهج الماركسي ، وكان ببساطة يمكن أن يتم إدراج المنهجين كمنهجين تثقيفيين في الحركة إلا إنه عند تنزيل البرامج على الأرض يجب أن لا تكون مشروطة بمنهج آحادي معين بل مشروطة بآخر ماتوصلت إليه البشرية فكرياً وعلمياً في المجال المعين حسب ما هو ممكن تطبيقه على الواقع دون أن يكون ذلك مشروطاً بعقائديات أو مصالح ضيقة. وهذا لعمري هو ما تقاتل من أجله الحركة الشعبية فهي لا تقاتل من أجل إثبات أن هناك منهجاً صحيحاً فغالبية الجماهير على الأرض لا تعرف وليس لديها أدنى فكرة إن لم تكن قد سمعت أصلاً بأن هناك شئ إسمه ماركسية أو تحليل ثقافي ، فكل ما يهم هو التحرير ، خطة تنموية لا تعيقها العقائديات والمصالح الضيقة ، ومواطن متحضر لايقتل أخاه بسبب معتقد. لقد أصبح معروفاً أن العالم المتحضر الآن والـﱠذي يعيش مواطنوه في رفاهية وسعادة هو عالم إقتصاديات السوق اللبرالي مع قدر كافي من الإشتراكية الـﱠتي تضمن توزيع الثروة بشكل مناسب على الجميع بحيث لا تكون هناك فروقات تراجيدية بين المواطنين في وطن واحد. لقد أصبح تعريف ما هي مهمة الحكومة محدداً جداً الآن لدي الغرب وهو أن عليها أن تجعل المواطن أسعد مما هو عليه .. هكذا بكل بساطة! إن من تعاطوا هذا الصراع الفكري بشكل متطرف داخل الحركة نسوا أن قواعدهم شديدة التنوع حتى داخل الإثنية الواحدة ، فأنا شخصياً مثلاً لديﱠ عدداً كبيراً من المعارف والأصدقاء من إثنية واحدة من إثنيات النوبة من أنصار السنة المحمدية وهم مناصرون متعصبون للحركة الشعبية .. !! تلك التيارات المختلفة قد وحدها شئ واحد ، أن هناك من يقاتل ليحقق لهم حلم الحياة الكريمة لهم أو لأجيالهم القادمة وليس بالضرورة أن هذه الحياة الكريمة تعني الغرق في الرفاهية .. بل إن العدالة في القليل تكفي.
ماذا كان أجدر بعرمان أن يفعل حيال الأزمة الحالية ليخرج منها دون أن يفقد قطاعاً كبيراً من قواعده خاصة في جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق رغم إحتفاظه برصيد واسع حتى الآن في الوسط والشمال. كان الأحرى بعرمان إبان بداية هذه الأزمة أن يكون سباقاً إلى تقديم إستقالة مسببة صادقة يشرح فيها للجمهور أنه لا يريد أن يكون عبئاً على أحد وأنه سيكون حريصاً على التخذيل عن هذا الجمهور في مجالات ومنابر أخرى ، بل وأن يتمسك بهذه الإستقالة ، ولكانت الجماهير الهادرة حملته على أعناقها تقاتل دونه ، فالجمهور لا يريد سوى الصدق وتحسس مطالبه. وحتى إذا تم قبول إسقالته ، فغالباً سيعود تحت ظروف أخرى أقوى مما كان عليه. وهو الأمر الـﱠذي فعله رفيقه عبدالعزيز مرتين من قبل ، فذهب لا يلوي على شيء فأعاده الجمهور لا يلوي على شيء.
وفي الختام .. والآن بعد قرارات مجلس تحرير جبال النوبة بتعيين الفريق الحلو مؤقتاً رئيساً للحركة ليقود إلى المؤتمر العام ، هل يقطع الفريق (الحلو مر) عطش المهمشين في هذا الرمضان القائظ؟! العطش الـﱠذي طال في صحراء التخبطات السابقة ، أم أن قدر المهمشين يرتب لهم صحاري أخرى ليقطعوها؟ والسؤال الثاني الـﱠذي قد لا يطرحه الكثيرين لأن بإعتقادهم أن اللعبة قد إنتهت ، هو هل ياترى يمكن أن يستعيد عرمان رصيده بتدابير جديدة ويعود في المؤتمر العام سليماً معافى مِما أصابه في هذه الأزمة؟ (أنا شخصياً لا أعتقد أن هذا قد يكون ممكناً أو سهلاً في المستقبل القريب فالضرر الـﱠذي لحق به أكبر مما يتصوره البعض). أم أن الأقدار السياسية ستسلك به سبلاً أخرى قد لاتقل دراماتيكيةً عن رحلته المدهشة في عالم السياسة السودانية؟ هذا سؤال نتركه لخيالكم أعزائي القراء!!

كوكو موسى

للاطلاع على المقال  بصيغة PDF

مقالات ذات صلة