مقالات وآراء

الأزمة الاقتصادية لن تحل برفع العقوبات الامريكية

اسماعيل عبد الله

بادرة رفع العقوبات الاقتصادية الامريكية عن السودان انعكست في الشارع السوداني ما بين متفائل ومتشائم , وبحكم عملنا في مجال الملاحة البحرية و الجوية صدمنا عدة مرات عند سداد رسوم ايجار حاويات شركات الملاحة العالمية لمجرد هويتنا السودانية , اذكر انني في ذات يوم ذهبت الى مكتب شركة (ميرسك سي لاند) للقيام بتسديد رسوم ترحيل حاويتين متجهتين الى بورتسودان فاذا بالموظف المسئول يقول لي عذراً سيدي هنالك قائمة من الدول المحظورة التي لا يحق لنا استلام أي مبلغ نقدي مقابل الدولار الامريكي من منسوبيها , لم يترك لي مجالاً للجدال فقام بطباعة ورقة و قدمها لي بكل اريحية , عندما اطلعت على المنشور وجدت اسم السودان من ضمن قائمة الدول المحظور التعامل معها في النقد و التحويلات المالية العالمية , كانت القائمة تشمل ايران , سوريا , ليبيا , كوريا الشمالية , السودان وكوبا , فما كان الحل الا ان يتم تحويل المبلغ باليورو الى حساب (ميرسك سي لاند) في الدنمارك مع اشتراط ان لا يكون المُحوِّل من رعايا هذه الدول التي شملتها قائمة الحظر , تلك هي اللحظة التي تؤكد لك مدى الكارثة و الجريمة الاخلاقية التي ارتكبها بحقنا أهل الانقاذ وذلك بالتلاعب في ادراة الدولة التي قادوها بطريقة لا تتوافق مع معايير النظام المالي والاقتصادي العالمي ,لقد خلقوا معركة في غير معترك بمناطحة ترسانة اقتصادية دان لها اليابانيون و الالمان بالولاء , من نحن في مقابل المانيا و اليابان ؟ تلك الاقتصاديات التي اغرقت اسواق العالم بانتاجها من فاره سيارات البي ام دبليو و التويوتا.
النظام المالي والاقتصادي في السودان ومنذ مجيء الانقاذ الى سدة الحكم لم يتخذ المعايير العالمية وسيلة له في ادارة القطاع الاقتصادي في وزارات المالية و التجارة الخارجية و الاقتصاد , لقد سيطرت النظرة التقليدية (للسمسار) و الوسيط التجاري على النهج الاقتصادي و المالي لأهل الانقاذ , تحول اصحاب النفوذ من وزراء و دستوريين الى وسطاء تجاريين يستفيدون من الفرص الاستثمارية المتاحة , هذا بدوره ادى الى الفساد الاداري و المالي في الدولة , تضخم هذا الفساد ووصل الى مراحل مستعصية الحل , اصبح الكل ملوّث بجرثومة الفساد , امست مؤسسات الدولة المالية مجرد مباني فخمة لعقد الاجتماعات واكل الفول (المدمس) وتداول قصاصات الورق التي يكتب و يدون فيها محاضر الاجتماعات و بعض الافكار و المقترحات التي تظل فيما بعد حبيسة الادراج , فقد البنك المركزي دوره و اصبح هناك بنكاً موازياً يقوم بخدمة مصالح الطبقة الطفيلية التي كان يقوم بها بنك السودان , ذلك هو بنك ام درمان الوطني الذي اصبحت له سمعة واسعة الانتشار في الاسواق الاقليمية لدرجة ان الاعتماد البنكي الصادر منه له أولوية اكبر من ذلك الاعتماد الذي يأتي من البنك المركزي , وبذات المنحى اصبحت الشركات المملوكة لرموز الانقاذ مسيطرة على السوق بحكم نفوذ ملاكها , فهي المستفيد من كل عمليات التجارة الداخلية و الخارجية , وفي المقابل تحولت الشركات الوطنية الى بيوت للعناكب , و بيع بعضها في المزادات غير المعلنة بين رموز الرأسمالية الجدد , وليس ببعيد عن الاذهان ما دار في شركة الاقطان , فهذه النقلة الغير مشروعة لمؤسسات الدولة السيادية و تحويلها الى ممتلكات لافراد فاقمت وتيرة الفساد بكل انواعه , فضاعت هيبة و دستورية الاجهزة الرقابية و المحاسبية , ونتاج لذلك تهدمت المباني الحديثة الانشاء لعدم اخضاعها لرقابة الجهات المختصة والمعنية بتطبيق معايير السلامة و الجودة , كما ادخلت الى البلاد كميات كبيرة من الشاش الطبي المغشوش.
انّ نظام الانقاذ قد بني على الباطل, فلن تنفع فيه البذرة الطيبة , ولا تنمو فيه سوى اشجار المؤتمر الوطني غريبة الاطوار , وسوف لن يستفيد المواطن البسيط من أي تحوّل في علاقات الانقاذ الدولية ايجاباً , سلبية العلاقة بين المواطن ومنظومة الانقاذ حدثت منذ اول يوم للانقلاب المشئوم عندما سيطر حزب صغير على مقدرات دولة كبيرة , فضرب اعناق تجار العملة ودمر الرأسمالية الوطنية واستبدلها بأفراد من الحزب (الجبهة الاسلامية), ذلك هو اليوم الذي انحرف فيه مسار الوطن نحو هاوية سحيقة العمق , لا تفرحوا يا اخوتي في الوطن بهذه المستجدات التي طرأت على علاقة النظام مع الحكومة الامريكية , فالمثل السوداني يقول:(ضيل الكلب عمرو ما ينعدل) وهذا يمثل الحالة الانقاذية بجدارة , لن تنعكس نتائج هذه المستجدات الا على الطبقة الاقتصادية الطفيلية التي ما زالت تمارس عملياتها الغير مشروعة في اغتصاب مقدرات الشعب المسكين , فهي تقوم بعملية توسعية شرهة و جشعة لا تحدها حدود , بدأت بابتلاع كل ايرادات الذهب الاسود في حساباتها الخاصة و تركت خزينة الدولة فارغة ومدينة للشعب الاصفر(الصين) , ثم أتوا ليستغفلوا الشعب الغلبان ويبشروه بانفراج الحال و زوال الكرب.
ما زال سجل الانقاذ حافل بالتجاوزات المالية و ديوان المراجع شاهد على ذلك منذ ان قال رائدهم الراحل حسن الترابي ان الفساد بضع في المائة, و الرائد لا يكذب اهله , لم يفعلوا شيئاً لتلك البضع في المائة حتى اكتملت بدراً فصارت مئة بالمئة او يزيد , كيف نثق نحن شعب السودان المقهور بان يحول الانقاذيون هذا الحدث لمنفعتنا ونحن محاربون في السوق المحلي (سوق ليبيا مثالاً) باستهداف بعض من ابناء الوطن العزيز بناءً على خلفياتهم الاثنية و الجغرافية ؟ كيف يمتلك مثل هكذا نظام مسوغاً اخلاقياً لاحقاق العدل بين الناس وهو يمارس تفتيت المجتمع جهوياً و عرقياً , والتجارة والرفاه الاقتصادي كما تعلمون لا ينتعشان الا في ظل دولة القانون و المواطنة والعدالة الاجتماعية .

اسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com

مقالات ذات صلة